حوار للروائي عادل بشتاوي مع الأستاذ حسام الدين محمد حالياً مدير تحرير صحيفة القدس العربي
● حسام: أنت تعمل في الصحافة منذ سنين طويلة. هل يتنافس الصحافي مع الروائي في داخلك؟ هل يكرهان بعضهما؛ أم أنهما يتعاونان يداً بيد؟
■ عادل: أعتقد أن الروائي في عادل بشتاوي لا يكره الصحافي الذي فيه إلا أنه لا يحبّه. أحياناً اعتقد أنهما يريدان الطلاق لكنهما لا يريدان ترك بعضهما في الوقت نفسه، كما معظم الناس، إلا عندما يتأكدا تماماً. الروائي (أو لنقل الكاتب) خدم الصحافي طويلاً لذا ربما وجدت أن الأدب (لغة على الأقل) يخدم الصحافة في الكثير من المقالات أو التحليلات أو الحوارات التي أنشرها. الصحافي خدم الروائي أيضاً بتجارب لا نهاية لها. مهنتي أتاحت لي بناء تجارب اعتقدها غنية جداً. استُضفت في القصور ورافقت أصحاب البلايين في طائراتهم الخاصة وعملت قريباً جداً من زعماء كثيرين وأعرف كيف يعيش هؤلاء وكيف يفكّرون إلا ان المسألة في النهاية مسألة وقت متوافر بقدر معين ولا تستطيع إطالته ولا مطّه ولا الإضافة إليه. أنا في هذا العمر أعرف أن أثمن شيء في الوجود ليس الماس أو الجواهر أو المال لكن الوقت. الدقيقة التي تمضي لا تعود مهما حدث. والصحافة، كما تعرف جيداً، مهنة جاحدة وبالوعة وقت وأنت، في النهاية، تملأ فراغات لا تريد أن تعود إلى النظر إليها بعد النشر ولم أعد أريد حتى جمعها أو تصنيفها (ما لم تكن للاستخدام كخلفية لمقال يمكن أن أعود إليه في المستقبل) لأنها تذكرني بالوقت الذي أزهقته في إعدادها. إلا أن العقل المسكين مثل الباص – عليه أن يحمل هذا ويحمل ذاك بغض النظر في معظم الأحيان عن تفضيله هذا على الآخر لأسباب اقتصادية ونفسانية وغيرها ولا أشك في أنه يريد أن يحمل الأدب فقط. متى سيحدث هذا؟ لا أعرف حتى الآن إلا أنني اعتقد أن مجموعة ظروف يمكن ان تدفعني إلى اتخاذ قرار. نشر “بقايا الوشم” ثم “زمن الموت والورود” كان فرصة للتعرف على مجموعة جديدة من الاصدقاء الممتازين إلا ان نشر الرواية الثانية أثار استياءً كبيراً لدى عدد من الاصدقاء والزملاء الذين لم يفهموا، في اعتقادي، الهدف من اختيار مذبحة صبرا وشاتيلا والحرب الأهلية اللبنانية خلفية لرواية “زمن الموت والورود” وكذلك الرواية المقبلة التي ستحمل اسم “حدائق اليأس”. اخترت معلوماتي جيداً واعتمدت أكثر التقارير صدقية ولجأت إلى شهود عيان كثيرين ثم أضفت كل هذا إلى معلوماتي الخاصة. لا تهمني أبداً خسارة كل من يريدون مني أن اخسرهم إذا كان هذا سيمنعني من قول ما اعتقده الحقيقة لذا يستطيعون أن يذهبوا إلى الجحيم إن شاءوا، ويستطيعون مقاطعتي عندما يريدون، ومع ذلك اعتقد ان خوض معارك لها نهايات عبثية عبث في عبث وسنرى.
● حسام: في محاورة مع ناقد عربي قال ليس لديه احساس بأنه مثقف مفكر، لأن المثقف المفكر شخص يتملك أفكاراً ويجهد نفسه في نشرها عن طريق الكتابة او الكلام، ورأى الناقد ان المثقف المفكر شخص قابل يوماً ما المفكر الذي يبحث عنه وانه قام بعد ذلك بتقليده. هل أنت من جنس المثقفين المفكرين الذي يملكون افكاراً ويجهدون في نشرها، وهل كان لديك أساتذة من هذا النوع تأثرت بهم؟
■ عادل: أحياناً أقرأ ما كتبه ناقد عشر مرات وانتهي كما بدأت – أي من دون أن أفهم شيئاً. لا أعرف بالضبط معنى “مثقف” ولا أعرف بالضبط معنى “مفكّر”. الإنسان (أو الإنسانة طبعاً) الذي يعيش 70 سنة يمضي في المتوسط 43 سنة من حياته وهو يفكّر. أما الثقافة فقضية نسبية تماماً وتخضع إلى اعتبارات كثيرة وينخلط فيها الوعي مع القراءة مع الوضع الاجتماعي مع القدرة على استيعاب كل ما حولنا. لكي نحل مشكلة غير معقدة جداً مثل الانتقال بالقطار أو الباص من النقطة ألف إلى النقطة باء ربما كنّا في حاجة الى عشرة ملايين معلومة يجب أن يحللها العقل بسرعة هائلة فما بالك بأشياء شديدة التعقيد والخصوصية مثل الثقافة؟ أجمعُ دائماً أقوالاً بعضها طريف وبعضها عميق (هكذا أتخيل) أكتبها في كل اوقات الليل والنهار وعلى أي شيء أجده في طريقي إلا أنني أمضي ساعات وأنا أبحث لها عن مكان في رواية أو قصة وأحياناً لا أجد. لماذا؟ لأن مثل هذه الأقوال “كبسولات فكرية” معظمها استنتاجي ولا يحين وقت الاستنتاج في عمل مثل الرواية إلا في وقت متأخر جداً، أي عندما تتسارع الاحداث ولا يبقى متسع “لتبهير” العمل الأدبي بمثل هذه الأقوال. أنا لم أحاول ولن أحاول في المستقبل أن استخدم أي عمل اكتبه للترويج لأفكار معينة أحملها. كل ما احاول القيام به هو عرض حالات انسانية معروفة من الزاوية التي أقف فيها ومن المنظور الذي اتطلع منه. يجب ان يعرف المظلوم والمغموم والعاشق والمريض والقريب من الموت أنه ليس وحيداً في شعوره. هذه مشاعر قديمة جداً وستبقى هي هي في المستقبل. المشكلة في كل هذه الحالات الانسانية التي سقتها وغيرها أنها غير قابلة للتحليل في وقت حدوثها. أنا حللتها على قدر معرفتي وعرضتها عليه في العمل الأدبي وله ان يستنتج منها ما يريد فلربما سهل عليه عندها استيعاب مشكلته قياساً إلى المشاكل الاخرى عند الناس. عندما تقرأ شيئاً معيناً وتفتح عينيك واسعاً فأنت، في معظم الاحيان، لا تفعل هذا لأنك قرأت شيئاً جديداً لم تسمع به في حياتك بل لأنك قرأت شيئاً تعرفه تماماً لكنك لم تستطع وضع اصبعك على طبيعته وها وجدت من صنّفه لك وعرضه عليك مجسماً مُضاءً وقال لك: هذا هو الشيء الذي شعرت به أو عرفته؛ ربما. من هم أساتذتي؟ كل الناس الذي قابلتهم أو أعيش معهم وكل الكتب التي قرأتها وكل الحالات الانسانية التي عايشتها. هل أستطيع ان أضع اسماء قليلة على هؤلاء؟ لا اعتقد.
● حسام: هناك روائيات تخصصن في التعبير عن مشاعر الرجل، وفي روايتك قدرة عظيمة على التعبير عن مشاعر الأنثى، كيف تمكنت من ذلك؟
■ عادل: لم يسألني أحد في حياتي الأدبية هذا السؤال لذا أشعر باستغراب شديد. فكّرت بالسبب واستنتجت أنني لا أعرفه ولا أجد تفسيراً مقنعاً له لذا انا مندهش مثلك. أريد مع ذلك ان اقترح عليك أسباباً. اعتقد أنني مراقب جيد جيداً لذا ربما كان من الطبيعي أن أراقب المرأة أكثر من الرجل لأنني ذكر في النهاية واعتبر مثل هذه المراقبة (المهذبة الخفية التي لا تثاقل فيها ولا احراج) نوعاً من الحقوق. إذا راقبتَ مثلاً الطريقة التي يجلس بها الرجال ستجد ان معظمها ميكانيكي لكن لم أرَ في حياتي امرأة تجلس مثل اخرى فلكل منهن طقوس جلوس تختلف عن الاخرى. أعط رجلا وامرأة موزة لكل منهما وأطلب منهما أن يأكلاها في قطار وسترى الفرق الهائل في طريقة الأكل. هذا ينسحب على معظم الأشياء الاخرى. اعتقد أيضاً ان المرأة أكثر شفافية من الرجل بكثير لذا تستطيع ان ترى عواطفها على وجهها وحركاتها وفي الطريقة التي تتحدث بها وحتى الكلمات التي تنطقها لذا ربما كان النفاذ إلى دواخلها ومراقبتها ووصفها أسهل بكثير من الرجل. ومثل معظم الرجال أنا احببت في حياتي نساء كثيرات لذا اعتقد أنني اعرف أشياء كثيرة عن المرأة. طبعاً الوضع يختلف عندما تريد ان تعالج شخصية مثل عروب في رواية “بقايا الوشم”. المراقبة هنا لا تكفي ومخزون الذاكرة قاصر وما تريد الكتابة عنه أو وصفه يتغير بسرعة وربما تغير مرات عدّة قبل الوصول إلى النهاية المرضية. ليست عندي شخصية اخترعتها ولم أتعلم حتى الآن كيف أكتب عن شيء لا اعرفه أو لم اختبره أو لم يختبره شخص مستعد لأن يتيح لي كل الوقت الذي أريده كي أكتب عنه. أذكر أنني طلبت من صديق صحافي مرافقتي إلى حفل عشاء في عمّان العام الماضي حضره أكثر من 50 شخصاً من دول عدّة. وقرب النهاية رفع رأسه فجأة وضحك وقال: اعتقد أن عروب معنا في هذه الجلسة فضحكت مثله وسألته أن يدّل عليها فدّل وأصاب. بعدها ذهبنا إليها معاً وسألها إن كانت تستطيع إن تقف على رؤوس أصابعها وتدور وهي تصفر كما في الرواية ففعلت لأنني كنت طلبت منها أن تفعل هذا عشرين أو ثلاثين مرة وأنا أكتب الرواية. عروب شخصية شفافة مثل رنا بطلة رواية “زمن الموت والورود” لكن رنا شخصية على درجة عالية جداً من التعقيد لذا لم أجد القدرة على “رسم” تلك الشخصية اعتماداً على “نموذج” واحد وعدّت مرة تلو أخرى فأعدت كتابة فصول كاملة. على المستوى النفساني هناك أنثى في الذكر وذكر في الانثى لذا أود أن استعيد معك ما قالته رنا (ص ٣٤٣) في الرواية عن هذا الموضوع وهي تخاطب علياً في سرّها: “هذه هي مشكلة الرجل مع المرأة يا علي – تجعله يلين لأنه لا يصل اليها ما لم يكن ليناً. هل تعرف متى تلين؟ سأقول لك لكن لا تضحك. تلين عندما تقترب الانثى فيك من الانثى فيها وتتحدث بلغتها وتفعل الشيء الذي تحبّه. غريب، أليس كذلك؟ ستقول تهكماً على عادتك: رنا أبدعت الآن فلنضحك قليلاً قبل أن نضحك كثيراً بعدها. ربما! لكن تذكّر أننا قبل أن نصبح ذكراً أو أنثى في الرحم كنّا ذكّراً وأنثى معاً داخل الرحم وها أصبحنا ساعة أو أقل ذكراً وأنثى معاً مرة اخرى خارج الرحم لذا لم يعد الانفصال سهلاًً لأننا تذكّرنا ما حدث لنا في بداية الحياة”.
● حسام: الأحداث التي تحصل في الرواية هي الأحداث التي تخص عروب ووسام، ولم تستكمل حكاية هشام وعلياء، أو أن الراوي ارتضى بالعلاقة الناشئة بين وسام وعروب كنوع من التعويض عن فشل هشام وعلياء. الحاضر هنا قام بتهميش الماضي واقصائه. نحن كما نعلم أن هشام هو شخصية مركزية في الرواية ولكننا لا نرى وجوداً له كما لو كانت وظيفته تكميلية وتزيينية، أو ليكون سبباً فقط في جمع العاشقين، لماذا؟
■ عادل: انا اتفق معك في معظم ما جاء في سؤالك. قصة هشام (والد وسام) وعلياء (أم عروب) مضغوطة في رواية “بقايا الوشم” لكن “فردها” لم يكن صعباً لأنني أعرف “نموذجي” علياء وهشام جيداً. المشكلة التي واجهتها ثلاثية: أولاها أن أضواء الرواية واحدة ولو زدت تسليط الأضواء على هشام وعلياء لكانت الأضواء المسلطة على وسام وعروب أقل نوراً ولخرجت رواية “بقايا الوشم” روايتين بدلاً من واحدة وهذا ليس الهدف. المشكلة الثانية مشكلة الحجم فالرواية كبيرة بالمقياس العربي (٤٥٥ صفحة) وإضافة 200 صفحة كان سيجعلها أكبر مما يحتمل الناشر. المشكلة الثالثة أنني لم أرد ان اكتب عن الماضي. أردته ان يكون خلفية للحاضر وأردت في الوقت نفسه أن يعرض نفسه للمقارنة مجاناً. وربما بدت شخصية هشام رئيسية في الرواية إلا أنني لم اقصدها هكذا. إذا كانت عروب البطلة فوسام ليس البطل ولا هشام. “بطل” الرواية هو خليل لأنه الوحيد الذي يتغير. هو الآخر ضحية مثل عروب لكنه لم يعرف أنه ضحية إلا بعد فوات الأوان لذلك أجد نفسي متعاطفاً معه إلى أبعد الحدود. واعتقد في النهاية أن “بقايا الوشم” تحتمل متابعة في المستقبل يُعاد فيها توزيع الأضواء ليحظى هشام وعلياء بالنصيب الاوفر ووسام وعروب بما بقي. عندي أكثر من 800 صفحة هي بقايا “بقايا الوشم” وإذا وجدت في المستقبل الوقت والاهتمام فربما كتبت متابعة لها.
● حسام: إذا كنتُ ناقدا مشغوفاً بالمناهج والقوالب الأدبية لتأطير النص فإنني سأقع في حيرة، فرواية “بقايا الوشم” تقدم، كما قلت في حوار معك، أفقاً ثقافياً يمتد بين “الشعر الجاهلي والانترنت والتراث العربي بتراث الغريق وافلام الكارتون”، وإذا اضفنا تأثر المسرح والتلفزيون والسينما فإن الرواية ستقدم وصفة نموذجية لمؤطري أنموذج “ما بعد الحداثة” في الأدب. من جهة اخرى الرواية تنهض على الثيمة التقليدية الخالدة عن شابين عاشقين يواجهان ظروفاً صعبة تحول دون زواجهما، وعلى أساليب السرد التقليدية (والتي تتقاطع- عادة – مع عناصر التشويق والمتعة في النص)، فكيف يتم جمع هذين النموذجين المفترضين: التقليدي والـ “ما بعد الحداثي” لديك من دون حصول سوء هضم في جسم الرواية، أو في استيعاب القارئ؟
■ عادل: أريد أولاً أن أحمد الله لأنك لست شغوفاً بالمناهج والقوالب الأدبية لتأطير النص لأنني لا اعرف لماذا يشغل الناس عقلهم بشيء مثل هذا. أريد أيضاً أن أشكر كل النقاد الذين عرضوا الرواية لأن أحداً منهم لم يثر مسألة القالب. أنا أو أنت أو الآخر إذا كنّا نريد ان نضع نصاً تقليدياً فعلينا اختيار إطار له. هكذا نفعل عندما نكتب رسالة مثلاً أو تقريراً. إذا كنتُ أريد ان أكتب عن الحياة فكيف أستطيع أن أضع للحياة إطاراً من أي نوع؟ ليس للحياة إطار. القالب الجيد ليس وصفة لصناعة المضمون الجيد. المضمون في النهاية هو الذي يصنع القالب لأن الحكم في النهاية على الصورة وليس على الإطار. الرواية فن أعتقد أن عليه ان يعكس حركة الحياة وبما أنني لا أستطيع ان اقيد حركة الحياة فأنا لا أستطيع ان أقيد حركة النص الذي يعكس حركة الحياة. الرواية كائن حي يتناول أحياء مثلنا ويجب ان تُعطى له الحرية المناسبة كي يفعل ويتفاعل ويكون قادراً على التنفس مثل الناس في الواقع ومثل الناس في الرواية. خلفيتي الأكاديمية شملت دراسة الادب والنقد الأدبي وأعرف القوالب الأدبية جيداً ونماذجها موجودة بمئات الألوف لكن ما فائدة استخدام قالب مناسب للقرن التاسع عشر وأنا على عتبة القرن الواحد والعشرين؟ من يقرأ شيئاً مثل هذا؟ معظم الكتّاب يستخدم النص للسرد وأنا أفضّل الحوار لخدمة الهدف نفسه. إذا كان حقق في النهاية هدفه وحققت في النهاية هدفي فقد أصاب وأصبت بغض النظر عن القالب المُستخدم. العقل البشري لا يحب السرد لأنه لا يفكر سرداً بل حواراً، والناس يتخاطبون حواراً والتركيز مجهد للعقل لذلك اعتقد أن الكتابة يجب ان تكون نزولاً مترافقاً مع نهرية التفكير وجداوليته. إذا كنت مضطراً للسرد (الذي اجده أسهل بكثير من الحوار) وجدتني أحاول ان أسوقه في قالب هزلي أو اسطوري أو سابح على بطانة شفيفة من الإيروسية وربما عمدت إلى تهييجه واشعال لهيب الدرامية فيه كي يشدّ الانتباه أو يمنع الملل من التسرب إلى عقل القارئ. هل هذا “ما بعد الحداثي”؟ لا أعرف. لم أفكر فيه هكذا ولا اعتقد أن لدي رغبة في التفكير فيه هكذا على الاطلاق. أعرف أن “قالب” رواية “بقايا الوشم” خليط من كل القوالب الأدبية المعروفة – قصة قصيرة ورواية ومسرح وشعر. هل هذا قالب تقليدي؟ لا أعرف. أعرف أن الفرق بين طبق طعام جيد وآخر سيء ليس الوعاء الذي يُطهى فيه ولا المكوّنات المصنوع منها لأنها واحدة بل طريقة الطهي واستخدام المكوّنات بمقادير معروفة والتأنّي ومحاولة التفكير في صورة مختلفة وجديدة لعل وعسى في النهاية.
● حسام: يقوم الروائي بعمليات “تحرير” شاقة ينظّف فيها النص من شحطات ذاتية، لكن نجد هواك بالشعر الجاهلي في “بقايا الوشم” طاغياً بحيث لم تنجح عمليات التحرير، ما رأيك؟
■ عادل: لدي رواية بالإنكليزية كتبت معظمها منذ 12 عاماً إلا أنني لم أتمّها وأودعتها كومبيوتري علّي أعود إليها يوماً ما. درست الانكليزية والفرنسية والروسية والالمانية في الجامعة وبعدها لكن عقلي قاصر لغوياً فلم يبق فيه سوى العربية والانكليزية. أحد الفروق بين العربية واللغات الاخرى أن العربية “مُثقلة” بالمعاني وكأن كلماتها رأس جبل ثلج متنه تحت سطح الماء. فكر معي بكلمات مثل “الحنان” و”الرأفة” أو بأفعال عادية مثل “ذاب”. ضع الفعل الاخير في جملة بسيطة مثل: “ذابت بين يديه” وتفكّر بوقعها الهائل ولنبحث بعدها في اللغات الاخرى عن تماثل. باختصار أنا بكتاباتي أريد أن أوفّي ديناً ثقيلاً للعربية عليّ. ليست هناك فائدة اقتصادية تُذكر من الكتابة الأدبية لا للكاتب ولا للناشر ولا حتى للموزّع. معظم العرب لا يقرأ الكتب أصلاً، وإذا استثنينا كتب التراث فإن عدد نسخ الكتب التي ينشرها “عمالقة” الكتابة في الوطن العربي لا شيء مقارنة حتى مع كتب متخصصة جداً تصدر في بلجيكا أو فرنسا. قبل أيام كنت مع بعض الزملاء فذُكر العيد فلوى زميل عراقي رقبته وندب على عادة الاخوة العراقيين وأنشد: “عيد بأية حال الخ”، ولم تنته الجلسة إذا ذكّرنا آخر بأن “شرّ البليّة ما يضحك”، وأفادنا ثالث باتقاء شر من أحسنت إليه. أنا لا أعرف شعباً يستحكم فيه التراث في هذه الصورة. الصينيون مثلنا في بعض الحالات لكن ليس في كلها. أنا من هذا الشعب لذا فكري مجبول بالطين نفسه. وربما قال قائل إن البيت الفلاني المنسوب للمتنبي يشبه بيتاً لأبي تمام إلا ان معظم الشعر الجاهلي خالص لأنه الأصل الذي نعرفه، لذا لا أفعل عندما أعود إلى الشعر الجاهلي سوى العودة إلى أصل الأصل. وعندما يحاول المرء أن يهرب من الواقع الملوث الذي هو فيه فمن الطبيعي أن يعود إلى نقاء الأصل. خليل وجد نفسه ظالماً في نظر ابنته وابنه وزوجته. تخلت عنه ابنته وزوجته تريد الطلاق فوجد نفسه في حديقة اليأس فحاول الابتعاد عن وضعه باللجوء إلى الشعر الجاهلي. تخيلت هذا الوضع طبيعياً في رواية “بقايا الوشم”، وإذا كان هذا “شطحة” فلا بأس. من منّا الذي لا يحتاج شحطة أو أكثر عندما تنغلق عليه الدنيا؟
● حسام: سمعت بعض من قرأوا رواية “بقايا الوشم” يقول ان الفصل الأول غامض بعض الشيء ولا يمكن فهمه إلا بعد فترة طويلة من القراءة. هل يجب أن يكون افتتاح الرواية معقدّاً وغامضاً، أم أنه يجب أن يفتح يديه لاستقبال القارئ وقيادته إلى عمق الرواية؟
■ عادل: قصدّت من الفصل الأول أن يكون بوابة من الموت إلى الحياة. وإذا كان فيه بعض التعقيد فاعتقد أن السبب هو هذا العبور المعاكس لأننا معتادون على العبور من الحياة إلى الموت. ولن تخرب الدنيا إذا تخطى القارئ الفصل الأول لأن المعلومات فيه قليلة (رجل ماتت زوجته فصار حزيناً ومثله ابنه) إلا أنني اعتقد أنه ضروري لفهم ما يحدث لهشام وابنه عندما يعرفان أن عروب كانت أشرفت على الموت ويعرض كل منهما للآخر مفهومه عن القدر بعد زيارة المقبرة (الفصل 19). أيضاً قصدت من هذا الفصل أن ألفت نظر القارئ إلى وجود مستويات عدّة للرواية فإذا أراد البعض بعدها أن يعتبرها رواية ذات حبكة بسيطة عن شاب وفتاة يحاول أبوها أن يمنعها من الزواج فليكن، وإذا أراد ان يستكشف مستوياتها المتعددة فمعه المفتاح الذي يساعده على ذلك.
وجدت تناقضاً بين رد فعل عروب عندما علمت أنها ستبقى لوحدها في المطعم مع وسام (أبن هشام) عندما تقول لأمها: “كيف أذهب إلى بيت شاب؛ تحسبينني مجنونة؟”، وتصرفها حين ذهبت معه الى البيت ولم تكتف بذلك بل دخلت الحمّام ولبست بيجاما رجل متسخة، فما هو سبب هذا التناقض؟
عروب المسكينة تعرضت إلى تجربة قاسية أفقدتها بعض توازنها لكنها انتبهت خلال مشهد المطعم أنها تستطيع الاطمئنان إلى وسام لأنه كان اظهر قلقه عليها وكاد يبكي معها وهي تتألم. عروب أيضاً انتقلت من مكان فيه قيود اجتماعية ونفسانية كثيرة (دمشق) إلى مكان ليست فيه القيود نفسها لذا كان في استطاعتها التصرف بعيداً عن تلك القيود. هذا يحدث في معظم الأحيان. أنا شخصياً استضفت زميلات وقريبات عربيات كثيرات في شقتي لأنهن وجدن أماناً أفضل من أمان الفندق وكنّ مثل شقيقاتي تماماً. عروب تحممت في بيت وسام لإزالة ألمها وارتدت بيجامته لأنها كانت اضاعت حقيبتها ولم تجد شيئاً آخر.
طرأ على خليل (أبو عروب) تغيير جذري فهو بدأ مضطهداً لابنته وزوجته وانتهى متسامحاً معتذراً فكيف هذا الانقلاب؟
اعتقد أنني “شرّحت” الغيرة في رواية “بقايا الوشم” في صورة وافية. عروب لا ذنب لها. صحيح أنا انكشفت برغبة على الغرب ووجدت في نفسها القدرة على التعايش معه إلا أنها بقيت في النهاية فتاة شرقية مئة في المئة وعادت إلى ابيها مثلما ذهبت. الذي حدث أن خليلاً شك في زوجته (علياء) على رغم كل الادلة لكنه لم يستطع الانتقام منها فانتقم من ابنته، ولم يستطع الانتقام من غريمه (هشام) فانتقم من ابنه (وسام). كان اختار زوجته هدفاً لكن صوّب مسدسه إلى ابنته لأنه يعرف أن هذا يؤلم زوجته أكثر مما يؤلمها لو صبّ عليها غضبه. التغيّر في خليل لم يكن سريعاً كما قال بعض الزملاء النقّاد فهناك فصل كامل (٢٢) مكرّس لشرح أسباب هذا التغيّر. وما الذي اكتشفه خليل في النهاية؟ اكتشف ان ابنته التي يحبّها احبّت شاباً مناسباً فلماذا يقف في طريقها؟ اكتشف أنه لن يستطيع ان يستعيد زوجته إلا إذا تغيّر لذا أخضع نفسه إلى جلسات نفسانية مطوّلة وتغيّر لأنه يحب زوجته ويريدها أن تعود إليه ولم يكن هذا ممكناً ما لم يتغير. هل كانت النهاية بالنسبة لخليل واقعية أم روائية؟ كانت واقعية. لو كنت أريد له نهاية روائية كنت أعدت علياء إلى هشام وانتقمنا كلنّا من خليل. انتزاع علياء من خليل ليس صعباً. الصعب، في رأيي، كان انتزاع عروب من أبيها. أنا لست مصلحاً اجتماعياً لذا لا يجب ان يهمني، كروائي، أن أدمّر علاقة الأب بابنته لأنه كاد أن يدمّر حياتها لكنني أب أيضاً. أحاول أن أكون أباً جيداً لكنني لست هكذا دائماً لذا يجب ان يبقى هذا الهامش الاضافي الذي يعرفه الناس باسم الرحمة.
تتصف الرواية بالواقعية، ويتبين هذا من خلال الحوار والاحداث فكلها نابعة من قلب المجتمع العربي، فكيف لك وصف هذا الحداث بهذه الواقعية والدفة وأنت مهاجر منذ زمن بعيد؟
أنا أعيش في لندن وأعمل لكنني لست مهاجراً. في السنوات العجاف أزور أربعة أو خمسة بلدان عربية وربما كنت أعرف عن الأوضاع في بلد ما أشياء لا يعرفها كثير من أهل البلد نفسه. لندن بالنسبة لي ليست بديلاً عن الدول العربية بل امتداداً لها. أنا لست غريباً في لندن – أعرفها جيداً، وأنا لست غريباً في بيروت – أعرفها جيداً هي الاخرى ومثلها عمّان والرباط ودبي وكل العواصم التي أزورها والتقي بعض أهلها. الذي أجده غريباً هو أن الجدران القائمة بين بلد مثل بريطانيا وبلدان عربية كثيرة أقل ارتفاعاً من الجدران القائمة بين كثير من الدول العربية، وأن سعر تذكرة السفر بين لندن ودول عربية ما أقل عادة من سعر التذكرة بين تلك الدولة ودولة عربية اخرى المسافة بينهما أقل من المسافة بين الدولة العربية ولندن. ثم أنني عشت وعملت في دمشق وبيروت وعمان ودبي وأبو ظبي ولي اصدقاء وأقارب فيها كلها.
في رواية “بقايا الوشم” حوار عن “المعط”، لكنه بعيد إلى حد ما عن الواقعية المألوفة في مجتمعنا الشرقي إذ لا يمكن ان يحدث هذا الحوار بهذه السهولة عما هو خاص بالنساء أمام الرجال فكيف تسوّغ وجود مثل هذا الحوار؟
يبدو الحديث عن “المعط” كأنه جاء عرضياً. كان وسام وعروب يتحدثان عن السكر فانتقلا إلى الحديث عن أدوات المعط العربية (المعقودة أو العقيدة بالعامية التي تصنع من السكر والليمون). طبعاً لم أقصده هكذا. أكبر مشكلة في رواية “بقايا الوشم” ليست التحوّل الذي طرأ على عروب وليس التحوّل الذي طرأ على خليل. أكبر مشكلة واجهتني هي كيف أستطيع إنضاج العلاقة بين وسام وعروب في ثلاثة أيام لذا وظّفت في انضاجها مجموعة من العوامل التي عانيت الأمرين في جعلها تبدو واقعية. ارتداء بيجامته كان واحداً منها كي تشعر أنها قريبة منه. إذا كنت أريد أن اقنع القارئ بأن عروب كانت على استعداد للموت في سبيل حبيبها وأن وساماً كان على استعداد للتضحية بنفسه من أجل حبيبته كان عليّ ألا أترك عروب تغادر لندن إلا بعدما اقنعت نفسها أنها ستكون زوجة لوسام مهما حدث، وهو مثلها. الحديث البريء بين عروب ووسام عن المعط، على رغم بساطته وعفويته، إقرار واضح (ولو على مستوى اللاشعور) بأنهما باتا يريان نفسيهما زوجاً وزوجة. ماذا بعد المعط سوى اجتماعهما في سرير واحد؟ وربما كان صحيحاً أن الحديث عن شيء مثل المعط (اعتقد أنك تقصد هنا الفصل 27 غير مألوف في المجتمع الدمشقي الاكثر تحفظاً من المجتمع الفلسطيني إلا أن أحداث هذا الفصل تدور في مجتمع فلسطيني وهو، على أي حال، يرد في صورة دعابة وجدتها مناسبة لإنهاء الفصل قبل الأخير.
استخدمت طائر الحور في رواية “بقايا الوشم” كما لو كان رادار يرصد أحاسيس العشاق فقط. من أين جاء هذا الطائر؟
سأكشف لك سر هذا الطائر الذي لم اتحدث عنه في أي مقابلة سابقة. إذا قرأت كلمة “حور” عكساً ستجد أن الكلمة هي “روح”. الذي حدث لعروب فاجعة في أي مقياس تريد اعتماده لذا لم أعد أجد حتى أعمق درجات الواقعية قادرة على التعبير عنه فنقلت معاناتها إلى مرحلة ما بعد الواقع. في الصفحة 502 تقول عروب لوسام الآتي: “لم أقل لك على الهاتف لكنك رددت إليّ حياتي بعد اللحظة الأخيرة ولن تكون لغيرك مهما كان”. ويبدو القول “بعد اللحظة الاخيرة” عفوياً إلا أنه المفتاح لما حدث في نهاية الفصل 18 فإن لم تكن عروب ماتت في نهايته فإنها، على الأقل، صارت تعيش بلا روح إلى ان توقف عذابها وعادت إلى وسام وعادت إليها روحها ولم يبق لطائر الحور دور فاختفى لأنه رجع إلى عمقها. هل هذا شيء واقعي؟ لمَ لا؟ ما هو الواقع؟