عادل بشتاوي: الفصل 17 من رواية زمن الموت والورود

ع

الفصل 17

 

“علي؟”

“نعم!”، قال وهو غير متأكد تماماً من صوت محدثه.

“علي”!

تأكد من صوتها فقفز واطفأ التلفزيون وجلس على حافة المقعد وحبس انفاسه وأنصت.

“علي”، قالت بشوق غلّف نفسه بحزن شفّاف من دون أن تنتبه، “رنا كانت تكتب لك رسالة فوضعت فاصلة في غير مكانها وصارت تبكي”.

“مسكينة رنا؛ لماذا؟”

“تقول انك لم تعد تريدها”.

“قولي لها هذا غير صحيح”.

“قلت لها لكنها لا تريد أن تتوقف عن البكاء”.

“اعطنيها!” حرّك رأسه وهو يبتسم وقال بنبرة أعلى: “اسمعي يا شاطرة! عندما تقول لك رنا: ’هذا غير صحيح’ فلا تعانديها”.

“لكنك لم تتصل بي منذ ستة عشر يوماً؛ لماذا؟”

“حاولت لكن الخط كان مشغولاً”.

“كم مرة؟”

“خمس مرات؛ ست لم أعدّها”.

“متى؟”

“ما هذا يا رنا؟ تحقيق؟”

“إذًا صحيح أنك لم تعد تريدها”، قالت وبكاؤها يرتفع.

“لا! ليس صحيحاً”.

“إذًا قل لها متى اتصلت حتى تتأكد”.

تجنّب السبت والاحد وقال الاثنين وتجنب الثلاثاء والاربعاء وقال الخميس. استمع فجاوبه سكوتها. عرف لماذا سكتت فأسرع يقطع عليها مقارنة ما قاله بما سجّلته في مفكّرتها، “الحصول على خط في الايام الباقية مستحيل بسبب العطلة عندكم وعندنا واضطررت إلى الذهاب إلى الكويت أربعة أيام. صدّقت الآن؟”

“إذا أردتني أن اصدّق سأصدّق”.

“إذًا صدّقي وقولي لرنا أن تتوقف عن هذا البكاء”.

“توقفت”، قالت رنا وقد خفّت رنة الحزن في صوتها، “وعندها شيء تريد أن تهديك إياه إن كنت تريده”.

“ماذا؟”

“مفتاح صغير”.

“لإغلاق شيء أم فتحه؟”

“سأضعه في يدك وسأتركك تقرر بنفسك”.

“إذًا جاء دوري أخيراً في اتخاذ قرار”.

“نعم! بقيت ستة أسابيع على انتهاء المهلة”.

“سنتحدث عندما تعودين”.

“لا تستطيع أن تعطيني فكرة الآن؟”، قالت ورنة الحزن تقوى مرة اخرى، “فكرة صغيرة جداً؟ أنا فعلاً قلقة يا علي ولا أعرف لماذا”.

وقف وأبعد الهاتف عن اذنه وركل المقعد بقوة ثم شهق الهواء بفمه.

“أشعر أنك تخفي عني شيئاً”، قالت من بين بكائها، “ما هو؟”

لم يجب فسألت: “لم تعد تثق بي؟”

“لماذا تقولين هذا؟”

“لأنك لم تعد تثق بي. أرى هذا الرجل ورائي اينما ذهبت ولا أريد أن اشعر انك تتجسس علي. الثقة أفضل جاسوس”.

“لم أطلب منه أن يتجسس عليك. هناك أشياء لا استطيع أن أقولها على الهاتف لذا اتركيه يقوم بمهمته. لا تنظري إليه لئلا ينتبه أحد ولا تحدثيه ولا تهربي منه ولا تخرجي إن لم تريه”.

“خائف علي؟”، قالت برنة بكاء اختلفت عن سابقتها.

“طبعاً خائف عليك”، قال وهو يشدّ قبضة الهاتف بقوة، “لن يتدخل في أي شيء تفعلينه لكن إن طلب منك أن تتبعيه فلا تجادلي. اتركي كل شيء واتبعيه”.

“لماذا؟ ما الذي يحدث؟ الاوضاع افضل منذ دخل السوريون”.

“لا تقلقي؛ مجرد احتياط”.

“لست قلقة على حياتي لكنني قلقة من…”.

“لا تقلقي على شيء. ركزي وانتهي من هذه الامتحانات الآن”.

“لا تزال على الطريق؟”

” لا أزال، لكن لا تقلقي”.

“مرت أكثر من أربعة أشهر ونصف الآن ولا تزال على الطريق؟ لو كنتَ على حمار كنت وصلت”.

آخر شيء كان يريد أن يفعله هو أن يضحك إلا انه لم يستطع. “الطريق إليك فعلاً مثل السير على حد السكين”، قال بعد لحظات، “لا أعرف في حياتي كلّها طريقاً فيه كل هذه الحواجز. أزيح واحداً فيطلع آخر، أزيح الآخر فيطلع ثالث”.

“يّي! يّي!يّي! يّي! من أين كل هذه الحواجز؟ لم اترك حاجزاً واحداً في طريقك إلي. حتى الحاجز الذي زرعته الطبيعة في جسدي أزلته لك”.

خلّى سبيل نفسه وضحك مرة اخرى. “لم تندمي بعد؟”

“لماذا أندم؟ كانت لحظة قوة وليست لحظة ضعف. كل ما حدث بعدها أكدّ لي هذا. أنت لا تزال تشعر بذنب هائل؟”

“لا أزال أشعر بذنب لكنه لم يعد هائلاً”.

“اعتدتَ عليه؟”

“على الذنب؟”

“على الذنب طبعاً”، قالت ضاحكة، “ولا تفكر بهذه الأشياء الآن. ستهيّج نفسك بلا فائدة. عندما أعود يمكنك أن تستأنف التفكير بها”.

استعوقت أجابته فذكّرته: “وعدتني لن تفكّر بغيري”.

“كلها وعود هذه الدنيا”.

سكتت لحظة وقالت: “لا تعجبني الطريقة التي قلت بها هذه الجملة الاخيرة. شيء يضايقك؛ ما هو؟”

“انتهي من هذه الامتحانات الآن”.

“أريد أن أعرف الآن؛ أرجوك”.

لم يكن يريد أن يقول لها لكنّه لم يستطع. كان يفكر بنفسه لكنّه كان يفكّر بها أيضاً. “رنا”، قال وهو يزيل كل الضيق من كلامه حتى لا ينقله إليها، “ذهبت إلى بيت الشيطان مرة اخرى”.

“أعرف وأعرف أنك تعرف”.

“تذكرين اتفاقنا؟”

“أذكره تماماً. لم ارتكب أي ذنب”.

“أكان الذهاب إليه ضرورياً؟”

“إخراج الشيطان يبدأ من الخروج من بيته”.

“إذًا كل شيء على ما يرام. أنت بخير وأنا بخير وكلانا لا يزال ملتزماً اتفاقه”، قال من دون اقتناع.

“أعرف انك تقول هذا من غير اقتناع لكنني سأقول لك يوماً ما حدث وستكون فخوراً بي”.

مسّت عصباً متورماً في نفسه. “لا يهمني أن اكون فخوراً بك”، قال يصرخ بألمه، “أريدك أن تبقي سالمة”.

“لا تخف. أنا أعرف ما أفعله”.

“أريد أن اخاف وأريدك أن تخافي. كل الاخطاء تحدث عندما يتوقف الخوف”.

“لن تحدث أخطاء يا علي. يجب أن تثق بي”.

“إذا عرفتُ بوجود خطر لا يمكن تجنّبه سآتي بنفسي وآخذك”. “لا حاجة لذلك. قل لي وسأعود في اللحظة التي تريدها. حتى التخرج لن يهمّني”.

انتظرت أن يقول شيئاً لكنّه لم يقل. “من يطمئن من يا علي؟”، قالت ضاحكة، “أنا التي في بيروت يجب أن اطمئنك؟ ألا يكفيني التفكير بنفسي وبكَ وبصحة بابا وبالامتحانات وبالتحويلات -“

تذكرت شيئاً فصمتت ثم قالت بصوت خفيض: “صديقك هذا الذي يتبعني إلى كل مكان معه فلوس؟”

“لا أعرف”، قال ضاحكاً، “لكن لا تسأليه. لماذا؟”

“التحويل تأخر مرة اخرى ونحن في منتصف الشهر ولم أدفع اجرة الغرفة لوالد رولا حتى الآن. تعتقد أنني استطيع أن اقترض منه شيئا؟”

“انتظري يومين أو ثلاثة وهو سيعطيك مبلغاً على الحساب عندما يجد الوقت مناسباً”.

كان يتوقع أن تسأله عن القيمة لكنها ضحكت فجأة وقالت: “على حساب ماذا؟”

“المهر”، كان سيقول فوراً، “المهر”. لم يفكّر بالكلمة ولم يجمع حروفها ولم يحضّها على الطيران. كانت مستعدة في عقله وكانت تهيّأت لوحدها. رأت الفرصة فانطلقت بأقصى سرعة لكنه سدّ عليها الطريق وأرهبها بقدمه فطارت عامودياً فخطفها من الجو وضمّ جناحيها إلى جسمها بحزم ووضعها وراء ظهره كيلا تراها فتعرف.

“على حساب أي شيء تريدينه”، قال وهو يعيد الكلمة الاولى إلى قفصها.

“سأعتبره جزءاً من التعويض إذًا”، قالت ضاحكة.

“التعويض هو الورد والشكولاتة التي تصل اليك كل اسبوع. أنت البنت الوحيدة في بيروت التي تتلقى وروداً هذه الايام. أجرة تسليمها ثلاثة أضعاف ثمنها”.

“لا، لا، لا. الورد والشوكولا هدية. التعويض لم نتفق عليه وهو نفسه جزء من تعويض أكبر اقترحته فاتنة مضاعفاً لكنني أعتقد أنني استأهل ثلاثة اضعاف أو حتى أربعة”.

قالت له لماذا فلم يعترض، ثم حدّثته عن بيروت والامتحانات وصديقاتها والطقس و…

جلس على حافة المقعد وألصق سماعة الهاتف بأذنه وأغمض عينيه وأنصت. توفّز جزء من تركيزه واستوعب كل كلمة تقولها. حلّل رنات صوتها وبحث في سكتاتها ومتابعاتها واستدراكاتها عن مكامن خطر ممكنة وترك الباقي ينصت للصوت المجرد فقط. مثل أرقامها وجسدها وتفكيرها لم يجد في صوتها زاوية واحدة. لم يكن في عقلها موقف يحتجز كلامها ويضيف إليه ليونة أو حسيّة أو عطراً قبل أن يضع عليه طابع الجودة ويخلي سبيله إليه. كان يأتيه من مصدره لذا كان سحره طبيعياً وكان الانسحار به اكثر طبيعية.

“رنا ستكمل لك الرسالة الآن إن كنت تسمح لها”، قالت بعد سكتة طويلة لم يقل شيئاً ليقطعها.

“قولي لها أن تضيف شيئاً يعيد الحمرة إلى اذنيّ”.

“هذا كان في المقدمة”.

“قولي لها أن تنتبه إلى نفسها”.

“ستنتبه”.

“قولي لها إنني انتظر”.

“قلتُ لها”.

“قولي لها…

انتظرت أن يعيد السماعة لكنّها ظلت في يده. ذكّرته فتذكر وتساءل لماذا ذكّرته مرة اخرى. كان اعتقد أنه ودّعها وأعاد السماعة إلى مكانها لكنّ السماعة كانت لا تزال في يده وكانت لا تزال تنتظر اغلاق الهاتف في الطرف الآخر قبل أن تفعل مثله.

حنى ظهره فجأة وردّه. حناه وردّه مرة اخرى ثم بدأ ظهره يهتز بسكون.

“تعرف ما هو الشيء الذي افكّر به خمسة آلاف مرة في اليوم على الاقل”، قالت وصوتها يقترب ويبتعد عن السماعة مثله.

“أعرف”، قال واهتزازه ينتظم في رتابة صارت طبيعة الآن.

“لا أريد أن أفعل شيئاً غيره عندما أعود”، قالت وهي تهزّ جسدها مثله، “أريد أن أبقى هكذا حتى ينتهي العمر”.

“نعم”، قال يتذكر، ثم شدّ خيالها إليه بحذر.

كان شدّ جسمها إليه بالحذر نفسه كيلا يوقظها في شقته بعدها. كان سمع أنفاسها تنتظم فجأة وكان ضمّها قريباً إلى صدره واهتز بهما معا.

كان سمع صوتها في الظلمة وهي مختبئة وراء ظهر المقعد تطلب منه ألا يمزح مرة اخرى.

“لم أمزح”، قال لها آنذاك، “كنت أريد أن أقول…”.

“لا تقل شيئاً”، قالت ترجوه.

“هل استطيع التنفس؟”

“بهدوء؛ أرجوك. أريد أن افكّر بمصيبتي”.

“لماذا لا تتركيني اساعدك على التفكير؟”، قال لها.

“لولاك لما اضطررت إلى التفكير بشيء. كنتُ… والآن… أنظر إلى حالي”.

“لا استطيع أن اراك في العتمة؛ سأضيء النور أولاًً”.

“لا!”، صاحت بقلق، “أبق كل الانوار مطفأة؛ أرجوك!”.

“ضوء القمر يشع عبر النافذة؛ أغلقها؟”

“لا! لن أرى عندها ما ستفعله”.

“لن أفعل شيئاً”.

“قلت لي هذا وصدّقتك لكنك كذبت علي”.

“لم أكذب. أنتِ أردت المجيء إلى هنا”.

“لم تمنعني”.

“حاولت”.

“لم تصرّ”.

“أنا مجنون كي أصرّ؟”

“أنا مجنونة كي آتي إلى هنا؟”

“حدث وانتهى. الآن يجب أن نفكّر بما بعده”.

“يي!”، قالت وهي تفتح عينيها واسعاً في الظلمة بسرعة ثم تغلقهما بسرعة أكبر، “يوجد بعده أيضاً؟”

“قصدت بما يجب أن نفعله الآن”.

“نفعل ماذا الآن؟”، قالت بقلق فيه طعم بكاء، “لا أريد أن أفعل شيئاً الآن”.

“قصدت -“.

“قصدت، قصدت، قصدت! لماذا لا تسكت وتريح نفسك وتريحني؟”

سكت فسكتت لكن قلقها فتح فمه على مزاجه وتكلم من دون إذن: “ماذا ستقول ماما الآن؟”

انتظرت اجابته في مخبئها وراء ظهر المقعد فلم يجب فارتفع قلقها… ثم صوتها، “لم أعد أستأهل أن تجيب عليّ الآن؟”

“قلت لا تقل شيئاً”.

“أجب على سؤالي فقط؛ أرجوك”.

“ستقول لك اطلبي من علي أن يعيده كما كان أو-“

“يا ربي!”، صاحت بخليط سريع من غضب خفيف وألم أخف منه، “قلتُ لك لا تمزح!”.

“لا ترفعي صوتك. ماذا سيقول الجيران إن سمعوك؟”

“سيقولون لك كيف سمحتَ لنفسك أن تغرر بفتاة مسكينة مثل رنا”.

“سأقول لهم هذه الفتاة التي تدعي انها مسكينة هي التي غررت بي”.

“سأبكي لهم ولن يصدّقك أحد”.

“إذًا سيتصلون بالشرطة”.

“الشرطة؟ ما دخل الشرطة بنا؟”

“هذه ليست بيروت؛ هذه ابو ظبي”.

“وماذا يحدث اذا جاؤوا؟”

“بهدلة وجرجرة إلى المخافر وفضيحة مجلجلة ستتبادلها كل صالونات ابو ظبي من الكورنيش إلى الجسر حتى الهزيع الاول من الألفية الثالثة إن بقي بترول في البلد”.

“قل لهم إنني زوجتك”.

“سيطلبون شهادة الزواج”.

تذكرت انهما لم يتزوجا فتوصلت إلى الاستنتاج الطبيعي: “لم نتزوج لذا ليس عندنا شهادة زواج”.

“إذًا…”.

“إذًا ماذا؟”

“لا تذكّريني. للشاب مئة جلدة أو مضاعفاته الصحيحة حسب مزاج القاضي. للمرأة – تعرفين قصة المرأة الخاطئة في الانجيل لذا لا حاجة للقول”.

سمع صوتاً يشبه اصطكاك اسنان فكبت رغبة شريرة اخرى بالضحك خوفاً من أن تفقد اعصابها نهائياً لكن الاصطكاك توقف فجأة ثم سمع ضحكة مبتورة.

حاول أن يستطلع خيالها في الظلمة وراء ظهر المقعد ليتأكد مما تفعله فانتبهت إلى محاولته فأنزلت رأسها إلى اخفض نقطة ممكنة ورفعت همسها إلى اعلاه ودفعته إليه من بين أسنانها: “قلت لك لا تنظر إلي! والله اصيح بأعلى صوتي الآن”.

ساد الصمت لحظة ثم سمع الصوت ثانية فتأكد. “لماذا تضحكين؟”

“لا أريد أن أضحك لكن غصباً عني. كنت سأسألك من أين سيأتون بالحجارة وليس عندهم سوى الرمل لكنني لم اشأ أن ابدو اكثر غباءً مما أنا الآن”.

“لماذا لا تريدين أن تري وجهاً ايجابياً لأي شيء؟”

“ما هو الايجابي في وضعي الآن يا عبقري؟”

“أنساك التفكير بالشياطين على الاقل يا عبقرية”.

“الشياطين أرحم منك. لم يفعلوا فيّ هكذا. كله كان كلاماً ووعوداً ونوافذ مطلة على البحر لكنك الوحيد الذي فعل. ماذا أقول لماما الآن؟ وضعتُ ساقاً على ساق فحدث لي هذا؟”

“قولي لها الحقيقة”.

“أنا أعرف ما هي الحقيقة حتى أقولها؟ لم أنتبه إلى شيء”.

“لا حاجة لقول أي شيء. اذهبي إلى المطبخ وعودي اليها بعلبة كبريت ثم قفي قبالتها مباشرة واشعلي عوداً وانفخي عليه حتى ينطفىء وقولي لها إن هذا ما حدث لك بالضبط لكن لا تذكري لها اسمي”.

سمع حركة قربها فرفع رأسه يستطلع. رأى شيئاً ينطلق في اتجاهه بسرعة ثم يصفر قرب اذنه قبل أن يرتطم بعنف بالجدار خلفه ويرتطم ثانية بالارض ثم سمع صوتها يرتطم بآخر درجة في سلّم صياحها الموسيقي، “قلت لك ألف مرة لا تمزح!”.

“لم اكن أمزح”، قال وهو يحاول أن يتبين اجساماً طائرة جديدة في الطريق اليه، “كنت احاول المساعدة فقط”.

“أي مساعدة؟ تريد أن تذكّرني انه مثل عود الكبريت. أعرف انه مثل عود الزفت”.

مضت لحظات خفيفة اخرى ثم سمع كتكتة مخنوقة. “عدتِ تضحكين؛ لماذا؟”

“والله غصباً عني؟”

“على ماذا؟”

“كنتُ كلما سمعت احداً يقول إنه ’زي عود الكبريت’ أضحك، إلا انه مثله تماماً”.

“وبسرعة احتراقه أيضاً”.

“وبلا وهج”، قالت بصوت دامع.

“وفي العتمة”.

“وبمتعة إحراق عود كبريت. أين هذه المتعة التي يتحدثون عنها في الافلام؟”

“المتعة تأتي بعد الزواج”.

“أين الزواج”.

“بعد الخطوبة”.

“أين الخطوبة؟”

“تريدين خطوبة بلا حب؟”

“حب؟ أين الحب؟ لا شيء. لا حب ولا خطوبة ولا زواج. قل لي بعد كل هذا انك لا تزال في الطريق”.

“أي طريق؟”

سمع حركة فرفع رأسه ورأى ما بيدها. “المزهرية هدية من لؤي. انزليها فوراً!”.

“إذا تساخفتَ مرة اخرى لن يكون في الطريق إلى رأسك سوى هذه المزهرية”.

“إذا أصابت المزهرية رأسي سيكون عود الكبريت احترق بلا فائدة”.

“كنتُ قلت انك اعتديت علي ولن تستطيع الإنكار وأنت على الارض مثل التمساح المقلوب على ظهره”.

“إلى هذا الحد؟”

“إلى اكثر منه. لم تعاملني بلطف أبداً”.

“أنا اخترعته؟ يأتي بطبيعته هكذا مخلوطاً بجدّ”.

“بجد فقط؟ كانت مثل العمليات الفدائية”.

“كيف؟ أغلبها مبالغة؟”

“لا! مناورات وتسلل و… استفدتَ من التدريب جيداً”.

“ليس التدريب؛ الخبرة”.

“نعم؟”

سمع الصوت المعهود فاختبأ وراء ظهر المقعد. “أنزلي المزهرية! كنت امزح”.

“أنت وعدت والتزمت”، قالت وهي ترفع المزهرية، “لو لم تلتزم ما جئت”.

“أنا ملتزم اتفاقي تماماً. ستة أشهر يعني ستة أشهر وبعدها سنتحدث”.

“ستة أشهر إلا أسبوعين”.

“إلا أسبوعين”.

“وماذا ستقول لي بعدها؟ احترق عود الكبريت ولم يبق وهج؟”

“إذا التزمت الاتفاق تماماً سأقول الذي تريدينني أن أقوله”.

“مهما كان؟”

“مهما كان”.

أنزلت المزهرية. “لن تغشّني”.

“أبداً”.

“لن تقول لي بعد قليل اشربي الشاي يا شاطرة وخذي هذه المحّاية واذهبي إلى امك. لا تتصلي بي أنا سأتصل بك؟”

“لماذا أقول شيئاً كهذا؟”

“لماذا اصدّقك؟”

“ليس عندك خيار”.

“عندي!”، قالت وهي ترفع المزهرية ثانية.

“هذا ليس خياراً. ثقي بي”.

“إذًا ستة أشهر إلا أسبوعين”.

“ستة أشهر إلا أسبوعين ودقيقتين”.

ذكّرتها الأشهر بشيء كان نسيته فشهقت عميقاً وقالت برعب: “علي!”.

نفخت رهبة في صدره نفسها فآلمته. “ماذا؟”، قال بقلق.

“ماذا لو -؟” قطعت جملتها وغابت قليلاً بقلق رضيع وعادت إليه بعد لحظة وقد فطمته لكنها غيّرت رأيها وعادت إليه به وقد صار يافعاً فلعلع: “… صرت مثل فاتنة؟”

شهقت وعادت إلى قلقها وتفحصته بدقة. جمعت اصابعها امامها وعدّت عليها ثم عدّت ثانية ثم رأى يديها تسقطان وذابت وراء ظهر المقعد ولم يعد يرى منها شيئاً.

“علي!”، قالت من قاع بئر خوفها، “هذا أسوأ يوم في الشهر”.

“رنا!”، قال بمزيج من الندم والاشفاق.

“لماذا لم أفكّر بهذا قبل أن… ستعرف ماما وستسألني وستكون في الدير قبل أن انتهي من الكلام. مسكينة ماما… وبابا أيضاً. مسكين بابا، ومسكينة راما. لن يتزوجها أحد عندما يسمع بما فعلته أختها. مسكينة ومسكينة اختها. ماذا سأفعل الآن؟”

تخطت بقفزة واحدة حاجز البكاء إلى العويل مباشرة لكن احتمالاً أسوأ عرض نفسه فأسكت البكاء والعويل وأحل نفسه مكانهما. استذكرت حديث أمّ عمر عن الاطفال الذين تتركهم امهاتهم أمام أبواب الجوامع فاجتاحها رعب. قفزت من مقعدها إلى علي ووضعت يده بين يديها واحتمت بها. “إذا حدث هذا يجب أن تقف معي”.

“سأقف معك”.

“يجب ألا تعرف أمي شيئاً. بين الفضيحة والاجهاض ستقبل الفضيحة”.

“لا إجهاض ولا فضيحة. ستأتين برشا صغيرة وستعيدين رشا إلى أمّها المسكينة التي لم تر ابنتها منذ عدتِ من بيروت”.

“ستعترف بها؟”

“لماذا لا أعترف بابنتي؟”

“ستقول لماما إنها ابنتك؟”

“طبعا!”.

“أريد أن أراك وأنت تقول لها هذا”.

“ماذا ستفعل؟”

“سترميك من الشبّاك وأنا سأساعدها”.

“لماذا ترمي رجلاً يريد أن يتزوج ابنتها لينقذها من الفضيحة؟”

“ستقول لها إنك ستتزوجني-

“إذا حملت سأعتبر المهلة انتهت وسأتزوجك فوراً”.

سكتت ودار حوار بينها وبين نفسها انتهى بسرعة. كان يتوقعها أن تقول شيئاً الا انها وقفت وأمسكته من يده وجرّته وراءها. “أريد أن أرى وجهك وانت تقول لي هذا”.

أوقفته داخل المطبخ وعادت إلى مدخله واضاءت النور وطلبت منه أن يكرر قوله فكرره. نظرت إليه تبحث عن بقايا شكوك ثم طلبت منه أن يكرر جملته مرة ثانية فكررها.

“أنت رجل شجاع حقاً، كما تقول راما”، قالت وهي تحرّك رأسها بدهشة.

“أنت الشجاعة. أنا لو كنت محلك ما تجرّأت على دخول شقة شاب لو كانت كل شياطين الارض في داخلي”.

“أنا جئت ومع ذلك ستتزوجني؟”

“فوراً إذا حملت. لا خوف ولا ندم ولا تردد”.

“لكنكَ لا تعرف كل شيء عني”.

“أسكتي يا رنا!”، قال يصرفها بمدّة طويلة من ذراعه، “أنا من كثرة ما سمعتك تتحدثين عن الذنوب صرت أعتقد انك مثل ممر خيبر – جيش نازل من هنا وجيش طالع من هناك. حتى التقبيل بالكاد تعرفينه ولولا التدريب على خدّي راما المسكينة ما كنتِ عرفت حتى ’الكاد’ هذه”.

لم يعرف ماذا حدث بعدها. كان يعتقد انها سترمي نفسها عليه من امتنانها إلا انها انطلقت مثل سيارات السباق الحديثة وكانت في اقصى سرعتها خلال ثانيتين. اختبأت وراء ظهر المقعد حيث كانت وصاحت: “يعني أنا لا أنفع حتى في هذا؟”

وقف خارج المطبخ وبسط يديه. “أنا قلتُ إنك لا تنفعين حتى في هذا؟ أنا كنت أريد أن أقول إن كل ذنوبك لا تساوي بصلة يابسة”.

“أنت تعرفها حتى تقول هذا؟”

“يا خيّي! كما تقولون في عين المريسة”، ضج باستخفاف، “أي ذنوب؟ أنت مُبتلاة بحساسية مفرطة لهذا تشعرين أنك خرّبت العالم. أين هذه الذنوب التي صرعتني بها؟ لو اظهرتُ لك إصبعاً من ذنب واحد عندي كنتُ وجدت نفسي أرشّ الماء على وجهك كي تصحي”.

“لماذا؟ فيك شياطين؟”

“طبعاً فيّ شياطين. فينا كلّنا شياطين”.

“هنا؟”، قالت وهي تتطلع حولها بحذر.

“لا، هنا!”، قال وهو يشير إلى دماغه.

“لكنك قلتَ لي إنك وضعتهم وراء باب في شقتك”، قالت وهي تتذكر باباً يمين المطبخ لم تفتحه، “أي باب؟”

“في شقتي هنا”، قال وهو يشير إلى رأسه ثانية، “ووراء باب هنا”، أضاف وهو يشير إلى رأسه أيضاً.

“لم انتبه إلى وجود شياطين في رأسك. ونحن في الداخل ربما، لكن ليس قبل ذلك وليس الآن”.

“أرسلتهم في اجازة داخلية طويلة”.

“كنت اطردهم وتخلّص منهم”.

“ليس في العالم خنازير تكفي”.

“لماذا تريد ابتلاء الخنازير المسكينة بهم؟”

“لا تخافي منهم. أعرف كيف اضبطهم”.

“أبقهم بعيداً عني. لا أريد أن أرى شياطين”.

“هم أيضاً لا يريدون أن يروك. ملائكة وشياطين لا يجتمعون”.

“لا أزال ملاكاً بعد ما حصل؟”

“تعرفين رأيي”.

“إذًا لم يعد هناك أمل في أن تأخذ فكرة سيئة عني؟”

“انتهى”.

قالت نصف كلمة ثم ضحكت وقالت نصف كلمة غيرها ثم ضحكت.

“لماذا تضحكين الآن… غصباً عنك طبعاً؟”

“كنت أفكّر إذا كنتُ ملاكاً وعاملتني هكذا كيف كنتَ ستعاملني لو كنتُ شيطاناً؟”

لم تنتظر تعليقه. أنزلت قدميها ونظرت إليه في الضوء المُشع من النافذة. “هل تستطيع أن تقول لي لماذا أضحك وأنا في وضع مثل هذا؟”

“أنا سألت نفسي السؤال ذاته قبل قليل ولم أجد جواباً – لا! غير صحيح”، قال يصحح نفسه، “وجدت الجواب لكنني أحاول ألا افكّر فيه”.

“لماذا؟”

وضع يديه على ركبتيه وحنى رأسه مراراً. “لن تصدّقي لكنني أشعر بذنب هائل. كان يجب أن أمنعك من المجيء إلى هنا بالقوة أو كان يجب أن أضبط نفسي. لماذا فعلتُ هذا؟”

“لماذا تشعر بالذنب؟ أنا الذي أتيت”.

“هذا الذي يحيّرني. لماذا أتيت؟”

“قلت لك. كنت أريد أن أرى البحر من هنا”.

“لكنكِ أصرّيت بعد ذلك على البقاء؛ لماذا؟”

“لا أعرف”، قالت بعدما بحثت عن إجابة قريبة ولم تجد، “ربما لأنني أردتك ألا تنساني وأنا في بيروت”.

“وماذا يحدث إذا عدتِ إلى بيروت وقررتِ أنك لا تريدين الارتباط برجل مثلي؟”

“لا أدري. أعتقد أنني كنت سألومكَ مرة اخرى على كل شيء ثم أنسى”. سكتت لحظة ثم أضافت، “كنت سأحاول أن أنسى على الاقل”.

“وإذا حملت؟”

“لا أعرف، لا أعرف”، قالت تستجيب لمخاوف بدأت تتجمع في عقلها مثل السحاب، “لماذا تسألني كل هذه الاسئلة الآن؟”

“أريد أن أعرف يا رنا. نحن فعلنا شيئاً كان يجب ألا نفعله الآن وأريد أن أعرف لماذا”.

“لماذا تريد أن تعرف الآن؟”، قالت وهي تبكي، “لو لم تكن غبياً في بيروت كنتُ الآن أصلّي كي أحمل ببنت مثل رشا بدلاً من أن اقعد في الظلمة هكذا وأقلق”.

“قلت لك أنا مستعد للزواج -“

“لا أريد الزواج!”، صاحت به فجأة.

“لماذا جئت إلى هنا إذًا؟”

“من الذي جاء إلى هنا؟”

استغرب سؤالها فقال بتردد: “أنت”.

“من هي أنت؟ من هي أنا؟ من الذي جاء منّا إليك؟”

شعر فجأة برهبة غريبة. كانت مضطربة للسبب الذي يعرفه وكانت مضطربة لأسباب غيرها لا يعرفها إلا انها كلّها الآن كانت شيئاً آخر لا يعرفه. “أريد أن اضيء النور الآن”، قال لها بهدوء تام، “نور المدخل فقط”.

“لماذا؟ خائف؟”

“نعم!”.

“كنتَ بدأت تعرف ما في داخلي لكنك تراه الآن. هذه فرصتك الأخيرة. إذا أردتَ أن تهرب فاهرب الآن”.

اقترب منها على ركبتيه فابتعدت لتعطيه فرصة اخرى ثم عادت إلى جلستها وتركته يقترب منها. “ما الذي يحدث في داخلك يا رنا؟”

“لا أعرف؛ لا أعرف”.

“قولي لي بماذا تفكرين الآن. صفي لي ما يحدث”.

“لا أعــ”

“من أجل الله يا رنا!”، صاح بحزم قطع مفاصل ترددها، “تطلعي حولك وقولي! الآن!”.

تطلعت ووصفت. الباب الاسود نفسه في المكان نفسه. كان مغلقاً قبل أن تأتي معه إلى الشقة لكنّه يهتز بين الحين والآخر لأنه لم يعد مقفلاً. شيء ما وضع فيه المفتاح وأداره وانسحب وها هو يهتز بين الحين والآخر ولا تعرف ماذا سيخرج منه في أي لحظة. إلى يمين الباب مدخل يقود إلى ساحة تشبه المغارة تنير سقفها أضواء مترددة تتسرب من زوايا أربعة وثلاثين باباً اصطفت حول المغارة كلها. بعضها مفتوح وراءه قناديل عتيقة بلا نور ودعامات مكسورة وبعضها مغلق وهناك باب يهتز بين الحين والآخر كما لو أن ريحاً غير متأكدة من قوّتها تحرّكه كي تختبر نفسها تمهيداً لشيء.

وضع رأسه على رأسها وولج اليهما بحذر. وقف بحذر ونظر حوله بحذر. رأى الباب الاسود أمامه مباشرة فسرقت لهفته عليها بعض حذره فرفع قدمه من دون أن يفكر ووضعها امامه ثم وضع ثقله على قدمه وأراد أن ينقل قدمه الآخرى فسمع تلك الطقة التي يعرفها جيداً وندم. كان حذراً وتصرف كمحارب وهو ينتقل اليها الا أن لهفته غلبت حذره فوضع قدمه قبل أن يتحسس المكان بدقة. وضعها وها هو سمع تلك الطقة التي لم يكن يتوقعها، وها قد سلّح اللغم نفسه، وها هو سينفجر عندما يرفع قدمه.

“رنا!”، همس وهو يجمد في مكانه، “من في لجئون يا رنا؟”

“لا أعرف”، قالت برهبة حبست أنفاسها.

“ما هو هذا الشيء الفظيع في داخلك؟”، قال برهبة مثلها، “من هو الذي يتلف الزهور في حديقتك ويصب الاسيد في ارضها حتى لا تلد حياة مرة اخرى؟ من هو هذا الذي تحاولين أن تبني سوراً كي تبقيه خارجك فإذا به معك؟ من هو هذا الشيطان الذي يريدك أن تكوني ضحيته؟ من هو يا رنا؟”

“أنا خائفـــــــــة”، همست له وهي ترتجف.

“ممن؟”

“من نفسي خائفة ومن لجئون ومن الشيطان الذي في لجئون خائفة”.

“أدخليني اليه”.

“كيف؟”

“أزيلي حواجزك من طريقي وأنا سأضع الحواجز في كل الطرق التي لا تؤدي اليك في داخلي”.

“كيف نستطيع أن نفعل هذا؟”

“أحبّيني”.

“لا أستطيع”، قالت وهي تبعد ذراعيها عن جنبيه، “ألا ترى أنني لا استطيع. حاولت. بعد هذه الليلة لم يبق شيء؛ لا شيء أبداً. أشعر أنني مثل زجاجة مملوءة. أحاول أن اضيف قطرة منك فيها فتطفح”.

“هذه هي المشكلة كلّها إذًا. دعيها تطفح. عاجلاً أو آجلاً ستنمزج بالماء الآخر ولن تطفح بي فقط. ستطفح به أيضاً وسأختلط به ولن يكون وحده ثم لن يكون بعدها”.

“يعرف لهذا يريد أن يحرق المكان كله”.

“إذًا أهربي منه إلي”.

“كيف تهرب من الشيطان إن كان فيك؟ سيأتيك معي وسيعذّبك كما يعذّبني”.

“لا تخافي! أنا سأعذبه”.

“أنت لا تعرف قوة الشيطان”.

“أعرف! قوته من ضعفي وأنا لست ضعيفاً. هو الضعيف وسيبقى ضعيفاً حتى اعطيه قوتي”.

“لجئون لن يسمح لك أن تدخل إلى الشيطان ولن يسمح لي أن أهرب منه”.

“لماذا؟”

أبعدت نفسها عنه ووضعت وجهها بين يديها وبكت. “يقول إنني خدعته لأنني اعطيتك المرة الاولى قبل أن ينتبه. يقول إنه جاء ليرى المنظر من النافذة لكنني خدعته قبل أن ينتبه ولن يغفر لي هذا”.

“اخدعيه مرة اخرى”.

“كيف؟”

“قولي له إنني سأحبه”.

“غاضب مثل الشيطان الآن؛ غاضب مثله ولا يفكر إلا…”.

“بالموت؟”

“نعم!”

“إذًا قولي له إن علياً فكّر بالموت مثله ولم يعد يفكر فيه بعد ذلك”.

“كيف؟”

“جاءني طيفه كل ليلة على شهرين فلم أعرف كيف اجعله يتجسد لي ثم تصنّعت أنني نائم وخائف فتجرأ وجاءني فأمسكت به من عنقه وحدقت فيه وعرفته وعرف أنني عرفته ثم سألت نفسي أمامه: علي! من أعطاك الحياة؟ فقلت: ربي اعطاني الحياة، فقلت أمامه: إن استردها ربك منك فهل يسترد شيئاً لم يعطك اياه في البدء؟ فقلت لا! فقلت: لم الخوف إذاً على شيء استُودع فيك لحظة ويسترده من اودعه فيك في اللحظة التي يريدها؟ فقلت: الخوف من أن يستردها الموت قبل أن أحياها. فقلت: إذا كانت الحياة خوفاً كلها فماذا يسترد الموت سوى موت آخر؟”

“لا أريد حياة مع خوف دائم؛ الموت أحسن منها”.

“لن يكون موت ولن يكون خوف ولن يكون قلق. لجئون سيعرف هذا فطمئنيه. قولي له إنك تحبينه وإنك لم تخدعيه. قولي له انك تريدين أن تخدعي الشيطان فقط. ذكّريه بالمكان الوحيد الذي سيأخذه إليه الشيطان. ارفعي يديه عن اذنيه وصيحي فيه أن الشيطان سيأخذه إلى الجحيم. قولي له إن الشيطان سيتوقف في الحديقة وسيشم الزهور وسيلعب بالماء النازل من النوافير وسيسكن غرفة جميلة تطل على بحر جميل في نزل جميل لكنه سيتابع طريقه بعد ذلك. سيتابعه إلى الجحيم لأن الجحيم هو الوجهة النهائية لكل الشياطين. سيتابع طريقه وسيأخذك معه. تريدين أن تذهبي إلى الجحيم يا رنا؟”

“لا”، صاحت باكية، “لجئون لا يريد الجحيم. يعرفه الآن”.

وقفت ومدّت ذراعين مرتجفتين في اتجاهه وصرخت بصوت ارتجف مثل جسمها كله: “ضمّني! أرجوك! ضمّني!”.

ضمّها.

“قل لي شيئاً جميلاً”، قالت لاهثة وهي ترتجف، “قل لي انك تحبّني. قل لي انني احبّك. قل لي كم أنا جميلة. قل لي كم أنا عذبة. قل لي كم أنا رائعة. قل لي كم أنا مثيرة. قل لي لن تنساني. قل لي لن أنساك. قل لي لن تفكّر بغيري. قل لي لن افكّر بغيرك. قل لي ستكون لي يوماً. قل لي سأكون لك يوماً. قل لي كم سأحب الحياة يوماً. قل لي كم سأحب ابنتي يوماً”.

قال لها فخفت لهاثها ثم هدأت فحملها إلى مقعده. “لجئون لا يزال غاضباً لكنه ينصت الآن. قل لي شيئاً آخر”.

قال لها فسكنت بين يديه ثم ابتسمت بضعف. “لجئون هدأ الآن ويريد أن يقول لك شيئاً مهماً”.

احترقت عيناه فجأة فضمّها بقوة. “قولي له إنني انتظرته طويلاً”.

“إسمعه جيداً: إن لم تأخذني أنت سيأخذني الشيطان. إن لم أحبّك سأحبّه. إن لم تحبّني لن أحبّك. هل سمعت أبسط من هذه المعادلة؟ هل عرفت كل شيء الآن؟”

“نعم!”

زحلت ذراعها اليسرى ومال رأسها بعيداً عنه فانتظر أن تعيد ذراعها إلى كتفه الا انها لم تتحرك.

تنهدت بعمق ثم ارتخى جسدها.

مسح العرق عن جبينها وشدّها إليه بحذر شديد كيلا يوقظها ورفع ذراعها إلى كتفه وراح يهتز بهما معاً بسكون.

 

عن المؤلف

عادل بشتاوي

● عادل سعيد بشتاوي مؤلف وباحث فلسطيني وبريطاني ومالطي الجنسية ولد في الناصرة (فلسطين) عام 1945 وعاش وعمل في بيروت ودمشق ودبي وباريس وأبو ظبي ولندن ومالطا. تخرج عادل من جامعة دمشق حيث درس اللغة الإنكليزية وآدابها، كما درس فقه اللغة في جامعة لندن مع الصديق العزيز الراحل لؤي معروف، والتحق بعدد من الدورات الصحافية أو الخاصة بتقنية المعلومات.

● بدأ عادل الانكشاف على الصحافة عندما عمل في وكالة الأنباء السورية (سانا) ثم انتقل بعدها للعمل في وزارة الإعلام وكان مسؤولاً عن الصحافيين العرب والأجانب خلال تغطيات الحرب مع إسرائيل، ثم راسل عدداً من وسائل الاعلام العربية والدولية المقروءة والمرئية باللغتين العربية والانكليزية من دمشق ودبي ولندن، وأجرى مقابلات صحافية وتلفزيونية مع عدد من السياسيين الدوليين مثل أنديرا غاندي رئيسة وزراء الهند ومارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا وبرونو كرايسكي مستشار النمسا، والرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق ورئيس الوزراء الباكستاني محمد خان جونيجو ومهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا وغيرهم في الخليج وخارجه إلى جانب مئات المقابلات والتحقيقات السياسية والاقتصادية والتاريخية.

● شغل عادل منصب مدير التحرير المركزي في وكالة أنباء الأمارات، ثم عمل محرراً للصفحة الأولى في جريدة العرب في لندن وهـو مــن المؤسسين في صحيفتــي الشرق الأوسط والحياة فعمل في الأولى مع جهاد الخازن وكان فيها مديراً للقسم الاقتصادي والملاحق، وعمل في الثانية بداية مع الرجل النبيل جميل مروة ثم وقع انقلاب وعاد فعمل مع جهاد الخازن الذي صار صديقاً في صحيفة الحياة التي ملكها الأمير السعودي خالد بن سلطان بن عبد العزيز وكان مديراً القسم الاقتصادي وملحق تقنية المعلومات، كما سبق أن كان محرر الصفحة الأولى في صحيفة العرب الدولية (لندن) التي كانت الصحيفة العربية الأولى التي تصدر في أوروبا.

● ساهم عادل في اعداد واخراج عدد من الافلام الوثائقية في سورية والامارات منها فيلم موت مدينة ومسلسل تلفزيوني مدته خمس ساعات هو: المسلمون على طريق الحرير لا تزال محطات تلفزيونية خليجية تعرضه في رمضان.

● نشر عادل عدداً من المجموعات القصصية والروايات والأبحاث منذ مطلع الثمانينات، كما ساهم في كتابة وتحرير عدد من الكتب التي أصدرتها مجموعة من المتميزين العرب في السياسة والصناعة والتنمية. تضم حافظته التأليفية أكثر من 20 كتاباً باللغتين العربية والإنجليزية. من أعماله مرجع لسانا العاربة والعربية وأصولهما الجنينية في عصر الحجر أصدرته نشرته دار أوثر هاوس الأميركية سنة 2013، وآخر كتابين له ديوان شعر بالإنجليزية نُشر عام 2022عنوانه بالعربية "سأهتف عندما تصرخ الرغبة" أي Only When Desire Scream شاركته فيه الصديقة سلفي سادو.

● الثاني كان في مايو (أيار) 2023 عندما صدر لعادل مجلد من 815 صفحة يحتوي كتابين مستقلين بالإنجليزية والعربية عنوان القسم العربي: كلام عصر الحجر وعظماء آلهة البشر: تأصيل لغوي للآربة (لغة عظيمنا آدم وقومه) والآكادية والإنجليزية. عنوان القسم الإنجليزي:
The Common Stone Age Origins
Of English, Akkadian and Arapīte
& Greatest Gods of Homo Sapiens

أضف تعليق