عادل بشتاوي
هذا الشعب الشجاع وقف دائماً مع أمّته وتمسك بها كما يتمسك الصدر بقلبه وكان من قادة النهضة الثقافية والعلمية في العالم العربي، وعزّ على الملايين أن يصبح أكثر الشعوب العربية ظلماً. والسوريون بناة حضارة بامتياز، وأين الأمّة العربية اليوم لولا سورية ومن هي وما هو قدرها وفي أي الزوايا كانت انزوت وهانت؟ هذه أرض أهدت روما القياصرة وأطعمت نصف سكان الإمبراطورية التي كانت تعدّ ستين مليون إنسان، ومنها قامت أول ثورة في العالم العربي على الإمبراطورية الرومانية لما كثر ظلمها (زنوبيا). هذه أرض احتضنت دولة الأمويين ومنها فتح العرب العالم القديم ونشروا العروبة والإسلام ولولاها لكان العرب إلى اليوم في جزيرتهم ينظر إليهم جيرانهم بطرف العين والشفة المرفوعة باستخفافها كما ينظر الطاووس إلى جارته الدجاجة.
السوريون شعب أين منه الشعوب لذا عزّ على الملايين في شرق بيت العرب وغربه أن يمسي هذا الشعب العظيم الذي أعطى في صبحه التاريخ والحضارة، أكثر الشعوب العربية التي سكنها الخوف. وعزّ على الملايين أن يحبط الظلم هذا الشعب ويصرعه على أرض التخلّف وهو قائم لا ريب ولا جدل من انتكاسة طرحته كما يقوم الفجر من العتمة والله الناصر ينصر من ينصر عدله ويعلي رحمته ومن مصر وتونس واليمن وسورية وكل الدول العربية الأخرى ستتابع شهب الحرية البيضاء طريق النصر ودك عمارة الجبروت حتى يتحرر العرب من الظلم وينتهي ذل أسوأ عهد عرفته الأمّة.
والسوريون يعربيون يرضعون العروبة مع حليبهم ولا يرفعون عن الحاكم الشك حتى يمعن في اليقين ومع ذلك كانوا يزحفون مساءً إلى ساحة قصر الضيافة فيبيتون ليلتهم في العراء، وكنت من هؤلاء ولما بلغت من العمر الخامسة عشرة، لكي يكون لهم مكان مشرف عندما يخرج الرئيس جمال عبد الناصر ليخطب فيهم، حتى إذا ارتفع صوته بالتهديد والنصر الأكيد، بدوا سكارى وما هم بسكارى فهتفوا معه وهتفوا له وتمنّوا الوحدة مع أمّ الدنيا. ولما جاءت الوحدة جاء معها عبد الحميد السرّاج (وزير داخلية حكومة الوحدة السابق) وجاء بصنف من أهل المخابرات برعوا في ممارسة تسلّط لم يعهده السوريون في زمن الشيشكلي، فامتدت أيديهم إلى البيوت الكبيرة والشقق الفاخرة والسيارات الجديدة فأخذوها، ثم امتدت أيديهم على الحريات فبدأوا يضيّقون على الناس وأذاقوا السوريين ما كان المصريون عرفوه وذاقوه. وكان السوريون لا يطيقون تسلطاً لحرية نشأوا عليها فصلّوا كي تذهب الغمّة، وتظاهروا بالصمت، واشتكوا بالعيون والعبرات لأنهم تفادوا الشكوى علناً كي لا يُقال إنهم يشتكون من الوحدة.
وسرت الإشاعات في سورية. وكان بعضها يزعم أن السرّاج ورهطه يضعون المعارضين في أحواض الحمامات (البانيو) المملوءة بالأسيد حتى يذوبوا. ولم يكن العجب في مثل هذه الإشاعات بل في ترجيح البعض وقوعها لأنهم كانوا يعرفوا ما يكفي لترجيح مثل هذا الاحتمال فسقط في الشك. وكان السرّاج يكتب إلى عبد الناصر بأن الشعب السوري يعزه، وبأن السوريين قاطبة يريدون استمرار الوحدة، ويطالبون بمزيد من الاندماج حتى يصبح البلدان بلداً واحداً في كل شيء، لكن الإقطاعيين يقفون في الطريق، والصناعيين يقفون في الطريق، والتجار يقفون في طريق الاندماج الكامل فبدأ التأميم، وبدأت مصادرة الأراضي.
لكن قصة نجاح إعادة توزيع الأراضي الزراعية في مصر لم تتكرر في سورية لأن مالك الأرض والمزارع كانا مختلفين تماماً عن مثيليهما في مصر فتوقف الاستثمار بالأرض. وكانت سورية تصدر القمح فصارت تستورده من إيطاليا وكندا وغيرها، وكانت تصدر الفاكهة فصارت تستوردها من لبنان، وانقلب المتضررون من التأميم والمصادرة على الوحدة وانضموا إلى المتضررين من الفئات الأخرى. ومع الزمن واستمرار تسلط المخابرات نمت ثورة سبق السوريين ببياضها برتقالية ثورة الأوكرانيين واللبنانيين. وكان شعار هذه الثورة البيضاء قول صغير: “بدّك تطوّل بالك”. وكتب سوريون هذا الشعار على الجدران وعلّقوه في لوحات في الدكاكين والورش وصالونات الحلاقة فعرف السرّاج الهدف منها وأنزل المخابرات إلى الشوارع والطرقات فكانوا يهينون من يعلّقها ويأمرون الناس بإزالتها فتغيب من مكان لتظهر في أمكنة. ومع كثرة الغيّ والتسلط بدأ السوريون يكفرون بالوحدة ويتمنون العودة إلى الانفصال لأن حرّيته كانت أكبر من حرية الوحدة.
إذا تساءل اليمني، رفيق السوري والمصري في الوحدة، والجزائري، رفيق السوري في النضال من أجل الاستقلال، والمغربي، حامي ميمنة البيت العربي على شواطئ الأطلسي، لماذا لم يخرج السوريون، وهم الأنشد إلى الوحدة من معظم العرب، عن بكرة أبيهم إلى الشوارع عندما أعلن عبد الكريم النحلاوي انقلابه العسكري على الوحدة مع مصر (1961) فقد أعطيت الجواب. الكلام عن مؤامرة إمبريالية أو صهيونية أو استعمارية أجهضت الوحدة كلام فارغ. السوريون لم يجهضوا الوحدة لكن الظلم أجهضها ولا يطيق السوريون الظلم.
ولم يخرج السوريون إلى الشوارع لرؤية الانقلابيين إذ كان ألمهم أكبر من أن يطيقوا رؤيتهم في شوارع مدينتهم الأزليّة، لكنهم لم يخرجوا للدفاع عن الوحدة. لم يستطيعوا إنزال السراج عن ظهورهم فلم يبق خيار سوى إنزال الوحدة مع مصر عن ظهورهم لأن مخابرات السرّاج ورهطه قتلوا الوحدة في نفوس السوريين. لم يكن قصد السراج ورهطه أن يقتلوا الوحدة أو إذلال الوحدويين، وكانوا عرباً يريدون استمرار الوحدة لأن عبد الناصر كان يريد استمرار الوحدة، لكنهم حكموا بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها، وكانوا يعتقدون أنها أفضل طريقة للحكم لأنهم لم يعرفوا من تجربتهم في مصر طريقة غيرها وكانوا أوفياء لتلك الطريقة. ضعوا فصيل جنود في حديقة غنّاء وانظروا ما سيحدث لها بعد ستة أشهر. هذا كل ما في الأمر فلا مؤامرة هنا ولا هم يحزنون.
وبعدما كفر السوريون بالوحدة كفروا بالسياسة واحتقروها كما احتقرها المصريون وكفروا بها واعتبروها أمّ الشرور ورأس الخبائث فانصرفوا عن الحكم والحكومة بالجملة فسطا عليها الانتهازيون وصار الجيش أقرب طريق إلى الثراء وأسرع الدروب إلى الحكم من دون جهد سوى الانتظار فملازم اليوم بالتأكيد نقيب الغد، ونقيب الغد بالتأكيد عقيد بعد الغد واللواء بالتأكيد حاكم البلاد ثم يتدرج في المناصب حتى يصل إلى أعلاها فيأتي غيره ويزيحه، لذا كان السوريون يتندرون بالقول إن أعلى مرتبة عسكرية في الدنيا هي المدني.
وكان أكثر ما يحز في قلوب أبناء الأمّة أن يروا الدبابات التي اشتروها للضباط لحماية حدود البلاد وتعيد حقوقه الضائعة وهي على تقاطعات الشوارع وأمام الأركان والإذاعة والمصارف المؤممة والمصانع التي كانت تنتج الأمشاط ذات الأسنان الملتصقة ببعضها في النهار فيأتي عمال دورية الليل فيذيبونها لعمال دورية النهار ثم يتبادلون الأدوار. وكان أكثر ما يحزّ في قلوب السوريين أن يروا الجيش المفترض به أن يكون على الجبهة مع إسرائيل، في الجبهة مع الشعب. وكان الجيش المفترض به أن يحمل البندقية للدفاع عن الوطن، يحمل المطرقة للدفاع عن النظام فينزل إلى الأسواق ويكسر قفل كل دكان أغلقها صاحبها احتجاجاً على التأميم الذي استخدمته الأنظمة سلاحاً فتّاكاً لإفناء الطبقة الوسطى. ونجح الانقلابيون في تدمير الطبقة الوسطى نجاحاً باهراً ففنيت في سورية ومصر والعراق والجزائر وفي غالبية الدول العربية. وبفناء هذه الطبقة توقف نبع إنتاج السياسيين والاقتصاديين والأدباء، وتولّى الضباط الكبار ممن ترعرع في الثكنات وعاش بين الدبابات والمدافع وعجلات الطائرات الحربية إدارة حياة المدنيين ففعلوا ذلك بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها وعاملوهم مثل عسكرهم وعاقبوهم بالطريقة العسكرية نفسها.
وكان من بقي في رأسه عقل يتلّفت حوله وينظر أمر الأمة فيرى الكوابيس في نهاره فمن أطال الله بعمره كان يترحم على أيام العثمانيين، ومن لم يكن على أيام بني عثمان صار يترحم على الاستعمار، ومن عاصر ضبط البعث صار يترحم على فوضى الاستقلال. وضاق الوطن بأهله وأهله بأحوالهم فخرجت صفوة المجتمع ومن قدر من الناس إلى الدول الرجعية في الخليج فتقدمت أمورهم، وخرج آخرون إلى بلاد الاستعمار فذاقوا الحرية، فيما نشط ابتعاث أبناء الضباط إلى الاتحاد السوفيتي فعادوا من بلاد ستالين ورأوا في الحريات القليلة التي بقيت صامدة في وجه رياح القمع انفلاتاً لا انفلات بعده ومظهراً مقززاً من مظاهر الرأسمالية فشمّروا وبدأت مرحلة جديدة من غسل الأدمغة مما بقى فيها من رواسب الحريّة والجرأة.
وكان الناظر إلى أوضاع هذه الأمّة يفرّك عينيه قوياً ويتساءل إن كانت لا تزال أمّة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان الناظر إلى هزائم الأمّة يفرّك عينيه قوياً ويتساءل أن بقيت لها علاقة بأمّة الانتصارات التي قرأ عنها في التاريخ. معقول؟، كان الناس يسألون أنفسهم. معقول أن يكون على رأس الأمة مثل هؤلاء الزعماء؟ أين هو الصك الذي يعطيهم ورهطهم الحق في استعباد الناس؟ من انتخبهم ومن اختارهم ومن وافق عليهم وأين هي الشرعيّة التي يستندون إليها؟ معقول أن يكون على رأس حزب ينادي بالوحدة زعيم مثل صدام حسين؟ منذ خمسين عاماً وهذا الحزب ينادي بشقيه العراقي والسوري بالوحدة. من اتحد معه، وهو اتحد مع من، ومن هو الذي يريد هكذا وحدة؟ إذا لم تستطع قيادتان متماثلتان في حزب متماثل خرج من الرحم نفسه الاتحاد فما بالك بالدول الأخرى؟ وكم كان عدد قصور صدام الزائل؟ إذا كان زعيم الحزب الذي ينادي بالاشتراكية له كل هذه القصور فما هو عدد القصور التي كان بناها لو كان ينادي بالرأسمالية؟ وهل بقي عند الاشتراكيين شيء يشاركون فيه الناس سوى الفقر؟
أرجو ألا أفهم خطأ ويفسر ما سقته بأنه إساءة إلى كل بعثي. هذا ليس القصد. لحزب البعث مواقف تاريخية مشرّفة في التصدي لاستبداد حسني الزعيم وأديب الشيشكلي، وفيه أعضاء لعبوا دوراً حاسماً في تحقيق الوحدة مع مصر (شباط/فبراير 1958)، وهناك وطنيون كثيرون انضموا إلى الحزب لا لهدف سوى خدمة هذه الأمّة لكن هذا الحزب مًختطف. مبادئه مختطفة وتاريخه مختطف ومواقفه مختطفة. إذا كانت الأنظمة اختطفت الشعوب فهل تعجز عن اختطاف الأحزاب وحركات التحرر؟
في هذه الأمّة اليوم عشرات الملايين من التلاميذ الذين يحسبون أن الأنظمة في العراق وسورية ومصر وغيرها وريثة العباسيين والأمويين والخديويين. وجاء صدام العراق برسامين فصنعوا في أحد قصوره جدارية كبيرة صوّرته على رأس رتل من الدبابات وصوّرت صلاح الدين إلى جانبه على رأس كوكبة من الفرسان. وكان صدام يقول: هل فعل المنصور أكثر مما فعلته؟ وكان يقول: “أنا أقل من نبوخذنصّر”؟ فراح يثبت قوله بالرسم وصوّر نفسه إلى جانب نبوخذنصّر (الثاني)على بوابة بابل وأمر فكُتب تحت الصورة: “بناه صدام حسين، حفيد نبوخذنصّر، للعراق المجيد”، وربما في إشارة إلى سبي اليهود بعد تخريب أورشليم 586 قبل المسيح.
وكان آخرون في غير العراق يبشرون أهل الجنة بوصول فقيد من عندهم، وآخرون غيرهم ينسبون أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشياء مثل هذه كانت كفراً واضحاً لو وجد العلماء والفقهاء الشجاعة التي لا فائدة من علمهم من دونها بدلاً من أن يرددها بعضهم ويؤكدها، أو وجدوا الوقت لتعميم العلوم والطب والهندسة والتنوّر بدلاً من التركيز حصراً على الحديث والفقه وإهمال كل شيء آخر فأين هؤلاء من العلماء والفقهاء الذين قاموا لنجدة الأمة لما كثر غي الخليفة العباسي الراشد بالله فعزلوه.
ومن لم يكن يعرف ما قاساه الشعب الروسي في ظل حكم ستالين تلفّت حوله في الخمسينات وما بعدها وعرف شيئاً عنه، ومن لم يكن يعرف من العرب ما هي حقيقة ما يحدث في العراق وسورية ولبنان والأردن ومصر واليمن بشماله وجنوبه ولماذا حدث ما حدث فلعل القليل الذي سقته في هذا الكتاب يساعده على فهم تلك المرحلة التي حكمت العرب فيها الشياطين ومن لا يخشى الله. من تساءل لماذا ساد بلاد العرب كل هذا الظلم ولم يعرف السبب فلعلي وضعته في الطريق الصحيح إلى فهمه.
لم يكن العرب يريدون إلا الحرية بعد 400 سنة من القهر العثماني وبعض الاعتراف بهم أمّة تتميز عن غيرها في مستنقع بني عثمان فعلّق العثمانيون مشانق 26 وطنياً في بيروت ودمشق. كم وطنياً عربياً مات في سجون الأنظمة الوطنية خلال الستين سنة الماضية؟ إذا كنّا خصصنا ساحتين كبيرتين في دمشق وبيروت لتخليد 26 بطلاً وطنياً وأخذنا الأمور قياساً فهل نبالغ إن أطلقنا على هذا العالم العربي كله ساحة شهداء الحرية ومناهضة الظلم؟ من يلوم اللبنانيين أن خرج بعضهم يطالب بعودة الاستعمار؟ والسوريين؟ والجزائريين؟ والمغاربيين؟ هل تعرفون ما هو الكتاب الذي طّبعت منه أربعة إصدارات في القاهرة خلال أيام؟ كتاب عن الملكية في مصر. هل تذكرون الكاريكاتير في صحيفة جزائرية عن خروفين عشية عيد الأضحى والسكين فوقهما فيسأل الأول الثاني: من يذبح من؟ فيجيب الثاني: الكل. الكل ليس رقماً هيّناً لأن 100 ألف ضحية عدد كبير بكل المقاييس. إن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لا يفوّت مناسبة لتذكير فرنسا بأنه “لا بديل أمامها إلا الإقرار بالأخطاء التي اقترفتها في الجزائر وتقر بأنها عذبت وقتلت جزائريين” خلال الاستعمار الذي دام 132 سنة، خصوصاً مجازر قالمة وسطيف وخراطة (8/5/1945) التي خلّفت 45 ألف قتيل، فمن من الحكومة الجزائرية سيقرّ بأخطاء حكومته في فناء 100 ألف جزائري؟ ولا تنفرد الجزائر بوضع لا يسري على دول عربية عدّة فإلى الآن لا يزال المغاربة يكتشفون جثث من ماتوا تحت التعذيب في الأقبية في مقابر لم يعرفوا بوجودها إلى عهد قريب.
لقد كان قهر بني عثمان متخلفاً بمثل تخلفهم لكن ما رآه العرب في خلفاء عبد الحميد وستالين من زعمائهم العرب كان شيئاً مختلفاً تماماً. العنف في طبع عرب كثيرين لكن القسوة ليست من طباعهم الأصليّة، ومع ذلك فـ “القسوة” ليست كافية لوصف ما حدث من الخمسينات إلى يومنا هذا. نحن عاطفيون لكننا نخطئ إن اعتقدنا أن المستبدين يفكرون مثل باقي البشر. نحن العرب العاديين نكتشف أنفسنا من وجود الناس حولنا: من آبائنا وأمهاتنا وأصدقائنا، ونتطلع من الخارج إلى الداخل، لكن المستبدين جنس آخر من البشر ليسوا مثلنا، ومن يراقبهم عن كثب سيرى كيف تتحول العواطف الانسانية في تقاطيع وجوههم إلى شمع وبلاستيك.
المستبدون فوق الجنسيات والأزمان والأعراق والثقافات واللغات والقوميات والأوطان. إنهم صنف مختلف. فيهم الصغير وفيهم الكبير لكن المدرسة المنجبة واحدة والتفكير واحد. ما الذي يجمع ستالين (حكم 26 سنة) من روسيا وفرانكو(36 سنة) من إسبانيا وسالازار (36 سنة) من البرتغال وصدام (24 سنة) من العراق والأسد (30 سنة) من سوريا وحسني مبارك (26 سنة) من مصر سوى حب السلطة؟ إنهم لا يرون حولهم سوى أدوات بقائهم فيتطلعون من الداخل إلى كل ما هو حولهم.
يمكن الحديث عن هذه الموضوع صفحات لكن سأجنبكم هذا العناء لأنّي وجدت مثالاُ يغني عن صفحات سأسوقه لسببين هاكم الأول: حكم فرانكو إسبانيا 36 سنة ونقل إلى المستشفى وهو بين الحياة والموت فقطعت محطات التلفزيون في العالم نشراتها العادية لتعلن النبأ، وسارع المخرجون إلى إعداد برامج وثائقية عن حياته لكن فرانكو ظل متمسكاً بالسلطة على فراش الموت كما تمسك بها خارجه فلم تخرج روحه بالسرعة التي تمنّاها العالم. وطال الحال بفرانكو أكثر من 45 شهراً فصار المذيعون يقولون في النشرات إن فرانكو لم يمت بعد، أو أنه لا يزال حياً. ولما مات أخيراً وقف كوميدي أميركي أمام الجمهور ثم قال شيئاً أضحك العالم.
ورُوي قبل ذلك أن فرانكو أفاق من سكرة من سكرات الموت على هتافات في الساحة خلف نافذة المستشفى فأشار إلى الطبيب أي تعال وسأله سبب هذا الهتاف. فقال الطبيب بحزن: شعبك جاء لوداعك. فسكت فرانكو لحظات ثم قال للطبيب: لماذا؟ إلى أين يريد شعبي الذهاب؟
هـ ــ الحارث والوارث كلاهما في اللاشرعية سواء
من تناقضات التاريخ إن الأمّة اليونانية التي قدمت للعالم نظام الحكم الديمقراطي في القرن الخامس قبل الميلاد ظلت أمة استبدت بها الشعوب الأخرى حتى عام 1829. ومن غرائب هذا النظام أن اليونان كانت ستعتبر أمّة مستبدة حتى عندما طبقت هذا النظام لأن اليونانيين استثنوا النساء والأجانب المقيمين في البلاد والعبيد لذا كان من يحق له التصويت يمثل 16٪ من عدد السكان. لكن اليونان كانت ستعتبر أكثر الأنظمة ديمقراطية حتى في عالم اليوم لأن ممارسة الديمقراطية كانت مباشرة وليس من خلال النواب أو أعضاء مجلس العموم أو أعضاء مجلس الشيوخ وما يقابلهم. والشائع أن بريطانيا من أقدم الدول الديمقراطية لكن الأنظمة الديمقراطية الشاملة التي تلتزم تطبيق القوانين واحترام حقوق الإنسان لم تكن موجودة في نهاية القرن التاسع عشر في أي مكان، وهي اليوم نظام غالبية دول العالم (120 دولة) التي تعدّ 192 دولة لذا تنفرد الدول العربية بحصة الأسد من الأنظمة الأخرى فتقترب من الثلث.
ووقفت الأمّة العربية في لحظة من لحظات تاريخها أمام الخيار الذي واجه كليسثينيس اليوناني قبل 2500 سنة فنظر المفكر سهل بن سلامة الأنصاري إلى ما حل ببغداد والبصرة وغيرها من مدن العراق من الشر والخراب بعد الفتنة بين الأمين والمأمون، وكلاهما إبنا هارون الرشيد، وما أفرزته من فتنة أكبر بين العرب والفرس فاستنتج أن خلاص الأمة في إلغاء سلطة الملوك، وقال بالعربية ما كان كليسثينيس قال شيئاً مثله باليونانية القديمة: “إن على الناس أن يتعاونوا فيما بينهم على إحقاق الحق وإبطال الباطل دون حاجة إلى السلطان”.
ولم يكن سهل وحيداً في هذه الدعوة فشاركه الرأي كثيرون ونمت في العراق حركة فكرية رفضت مبدأ الإمامة وأنكرت على الملوك ادعاء الخلافة على المسلمين استناداً إلى الحديث النبوي: “إنا معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة”. وبما أن الأنبياء لا يورثون فما يتركونه في الدنيا من مال أو مقام ملك للمسلمين جميعاً ولا يحق لآل البيت النبوي، أو غيرهم من مدعي السلطة، المطالبة به، والأجدر بالمسلمين إقرار الشورى أو حكم أنفسهم بأنفسهم أو بمن يكلفونه الحكم. ومن الواضح أن حجب الإمامة في هذه الصورة شامل لا يقتصر على المأمون بل يمتد إلى الخلافة العباسية كلها بدءاً بمؤسس السلالة العباسية عباس بن عبد المطلب، أحد أعمام الرسول الثلاثة، وهو المعروف بالسفّاح لقوله من على المنبر في مسجد الكوفة: “أنا السفاح المبيح والنائر المبير”.[1]
وشعر المأمون وأخواله الفرس بخطر هذه الدعوة فنزل سوق النقاش قارئاً ومشاركاً وموجهاً بحكم منصبه الكبير فاختطف مسار الحوار الرافض للسلطة كلها وحوّله ومؤيدوه من حوار ذي صلة وثيقة بما يحدث وقتها إلى محوّر عام هو الخلاف على أحقيّة الحكم بين الأمويين والعباسيين بما يعكسه من خلاف أهم بين العرب والفرس. وقيض للمأمون مفكر لعله من أكبر المفكرين الانتهازيين في التاريخ العباسي، وربما العربي، وأكثرهم جدلاً فوقف إلى جانب المأمون ووظف موهبته ولغته العقلانية السابحة في ماء الأدب وأسلوبه المدهش في خدمة محور نقاشه. ومن كتاباته في تلك الفترة الحاسمة من التاريخ العربي ذاع صيت الجاحظ في العراق وخارجه وصارت له سطوة على الحوار تعادل سطوة المأمون في الساحة السياسية والعسكرية. وانبرى الجاحظ للفئة التي أيدت الأمويين، وغالبيتها من العرب، وهي المعروفة باسم “المحدثين” أو “النابتة” فطعن في الحديث النبوي أعلاه وكتب في تأييد الخلافة العامة، وبالتالي خلافة العباسيين ضمناً، ووجوبها على المسلمين فرضاً كما يتضح في “وجوب الإمامة” و”الدلالة”، وصار في حساب الفئة المعاكسة لتيار المحدّثين المعروفة باسم “المعتزلة” من خلال مدرسته التي يُشار إليها في بعض المصادر باسم “الجاحظية”.
وكان أساس الصراع بين العرب والفرس وجوهره صراعاً على السلطة أججه التنافس بين العرقين العربي والفارسي، ثم شحنه الطرفان بالدين فازدادت مشايعة الفرس لعلي بن أبي طالب (ولذا عُرفوا بالشيعة) فوق حدها السابق، واتخذوه رمزاً دينياً وأعطوه القدسية فأعلنوه أفضل الخلق بعد الرسول. أما المحدثّين فوقفوا في الجانب المعاكس تماماً وصاروا يتفادون ذكر علي، وجعلوا معاوية بن أبي سفيان رمزاً دينياً وأسبغوا عليه شيئاً من القداسة. وسعى المحدثّون إلى قطع الطريق على التعرض لرمزهم الكبير فصاروا يقولون إن شتم معاوية بدعة ومن شنّع عليه خالف السنة فسلّط المأمون وجماعته الجاحظ على المحدّثين فأخرج كتاباً (إمامة معاوية) حمل فيه على معاوية حملة لم يسمع الناس بمثلها منذ زمن السفاح، مما مهد للمأمون إخراج المنادين في الساحات والشوارع يتبرأ ممن ذكر معاوية بخير. [2]
ونعرف من تطورات ذلك الزمان أن الحوار لم يحسم الخلاف بين الأمين والمأمون فاحتكم المأمون إلى السيف ودخل بغداد وقتل أخاه واستبد بالملك ونادى بنفسه الخليفة العباس السابع عبد الله بن هارون الرشيد المشهور بالمأمون. وغرق رأي سهل بن سلامة الأنصاري ومن وافقه في معمعة هذه الفتنة وذهبت ريحه وطاب الحكم للمأمون ومن أعماله المشهود له بها عنايته بالعلوم والأدب والترجمة وبناء المدارس والمكتبات (دار الحكمة) حتى وصلت في عهده إلى الأوج، ولعلها في أحد أشكالها نتاج تغير العلاقة بين الملك والدين لكنها لم تصل إلى حد الانفصال. ومع ذلك فإن الصراع السلطوي العرقي بين العرب والفرس لم ينته ودخله آخرون من أعراق غيرهما وآل بالخلافة العباسية إلى ما نعرفه في التاريخ.
إن إقحام العامل الديني في صراع العرب على السلطة الدنيوية منذ خلافة علي بن أبي طالب وإسباغ القدسية والمعصومية على أطراف هذا الصراع ساهم في خنق الحوار في شأن طبيعة هذا الصراع وأسبابه فاحتكم علي ومعاوية إلى السيف بعد مقتل عثمان بعدما بعثت نائلة، زوجة الخليفة القتيل، قميص زوجها المخضب بالدم إلى الشام فحزن أهلها على عثمان وبايعوا معاوية أميراً ثم خليفة شرط الانتقام لمقتل عثمان. فلما دعا علي معاوية إلى بيعته اشترط تسليمه قتلة عثمان، وروج معاوية في صفين أن قتلة عثمان في جيش علي ويأبى أن يعاقبهم.
وانشغل علي بعد صفين بقتال الخوارج (الجماعة التي خرجت عليه بعد وقعة الجمل وكانت أهم حرب بين المسلمين وأكثرها ألماً لمقتل طلحة والزبير فيها) فاستغل معاوية الظرف لتسيير الجيوش إلى مصر والمدينة وغيرها وبسط سيطرته عليها. أما عليّاً فقد اغتاله الخوارج من ضمن خطة أشمل لاغتيال معاوية وداهيته عمرو بن العاص في يوم واحد وإعادة مبدأ الشورى إلى الإسلام. وقُتل علي قتلاً ظالماً فخسرت الأمة واحداً من أنبل أبنائها فما كان قبل الخلافة إلا كارهاً لها أشد الكره، فيما نجا الاثنان. واستتب الأمر لمعاوية بعد غياب الخليفة الرابع واستبد بالسلطة وبدأ هرقلة الحكم بتعيين ابنه يزيد خلفاً فقال عبد الرحمن بن أبي بكر (الصديق) قولته الشهيرة: “ما لخيار أردتها لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقليّة: كلما مات هرقل قام هرقل”؟[3] ثم كرر الجاحظ قولاً شبيهاً عندما اتهم معاوية بمخالفة الجماعة وتجاهل الشورى وتحويل الإمامة إلى ملك كسروي وقيصري “فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفّار”.[4]
إن الباحث ليتفادى إغراء إسقاط زمن على زمن آخر وإذ بأحداث بعينها تُسقط نفسها بنفسها على الزمن الآخر ولا أعرف تاريخاً يتميز بهذه الخاصيّة كما يتميز بها التاريخ العربي. ويعرف الناس الآن، كما كانوا يعرفون في عهد المأمون، أن ما كل حاكم أطلق على نفسه صفة “ولي الأمر” بولي الأمر المستحق للطاعة ما لم يؤمّر من الناس وليس من أقربائه وأصحابه. وما كل سلطان عثماني أطلق على نفسه اسم “حامي الأحرام الثلاثة: المدينة ومكة والقدس” سلطان على الناس ما لم يبايعوه على السلطنة ويبايعهم. وما كل حاكم بعزيز القوم ولذا فإنه يستحق الرحمة إن ذلّ ما لم يكن الحاكم الذي أعزّه الناس وليس الإعلام البيّاع الذي يسيطر عليه ويروج له. لكن تداخل كل هذه العوامل في العقل البسيط وإسقاطه من زمن على زمن، ومن حاكم على حاكم، ومن حالة على حالة هو الذي يقود البعض إلى وضع استنهاض العاطفة والشعور بالرحمة على مستبدين تمكنت الغلظة من قلوبهم أو الثلب من أجسادهم.
إن مداخلة العصور والأزمان وإسقاط عهد على عهد بغية الاحتكاك بصلاح الأولين أو شرعيّتهم هي التي تنتج وضعاً عجيباً يقفز فوق ألف ومائتي سنة فيصف وضعاً في القرن الواحد والعشرين بأنه فتنة القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) ومن ذلك اتهام ثلاثة سعوديين ناشطين في الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية (علي الدميني وعبد الله الحامد ومتروك الفالح) بـ: “إثارة الفتنة والخروج على طاعة ولي الأمر” في المملكة بالدعوة إلى “قيام ملكية دستورية واستخدام مصطلحات غربية في طلبهم إجراء تغييرات سياسية في المملكة” حسب ممثلي النيابة العامة.
وإن الباحث ليسأل نفسه ماذا كان حدث يا ترى لو أن مفكّراً مثل الجاحظ رأى ما رآه سهل بن سلامة الأنصاري واستنتج مما يعرفه من التاريخ، وما يمكن أن يستنتجه عظيم بكل قياس، بأن الشعوب لا تستطيع ائتمان الملوك على مصيرها، ثم وظف عبقريته للدفاع عن هذا الرأي الجديد بدلاً من أن ينصر مستبداً مثل المأمون ومتسلقاً مثل الفضل بن سهل الذي مكّن المأمون من السلطة وصار وزيره، ويساهم في خروج المأمون عن السنة بالتشيّع؟ والجاحظ هو المفكّر الليبرالي الوحيد في العالم الذي نصر السودان على البيضان وبيّن فضلهم، وهو أيضاً المفكر الذي استخلص بأن احتمال مشاركة الملوك حكمهم عبث لأنهم لن يقبلوا أقل من كل شيء: “وإنما غاية الملوك في كل شيء، لا بدّ للملوك منه، فأما ما فضل عن ذلك فإنها لا تخاطر بأصول الملك”[5]، ومع ذلك تبدّت للجاحظ الفرصة التي تبدّت للبارون مونتيسكيو بعده بألف سنة فأنكرها وسخّر عبقريته لخدمة الاستبداد وجعل الخلاف بين الأمين والمأمون في بداية القرن التاسع الميلادي خلافاً بين الأمويين وآل بيت النبي قبل أكثر من 150 عاماً.
لكنّ المقارنة بين الجاحظ ومونتيسكيو لعلها المقارنة الخطأ فالأصح مقارنة المأمون بكليسثينيس فكلاهما كان زعيماً فاختار الثاني مشاركة الناس له في الحكم لكي يتحملوا جزءاً من المسؤولية، فيما اختار الأول أن يتحملها كلها ففتك بمؤيده الأكبر الفضل بن سهل كما فتك سابقه بمؤيده الأكبر أبي مسلم الخراساني. وضاق المأمون بأخواله فانصرف عنهم وحمل إلى العرب والعربية من العلم والتنوّر ما لم يحمله ملك قبله وليته حمل إليهم بدلاً من ذلك ما حمله كليسثينيس لأن العلم والتنوّر نتاج الحرية والديمقراطية الصحيحة الطبيعي. ولم يفعل فترك لمن جاء بعده الإرث المنحوس نفسه ففتكوا ببعضهم البعض وفتكوا بالناس وبات السيف أصدق أنباءً من الكتب كلها وصاحب الكلمة الأخيرة في كل حوار وكتابة وقول.
إن بعض الغربيين الذين يزعمون أن الإسلام دين الاستبداد لم يقرأوا الآية: “قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلة”. لا يوجد في كتاب مقدس آخر مثل هذا التعميم، ولا يوجد في تراث الشعوب وأمثالهم من اعتبر السلطة مصدر كل الشرور ورأس كل الخبائث لذا تدعو الأمّ العجوز لابنها الشاب بأن يحميه من الحكّام والظّلام (الظالمين) وأولاد الحرام فخصصت في الحالتين الأخيرتين وكان حكمها مطلقاً في الحالة الأولى وكأنهم جميعاً في الاستبداد سواء. وإن بعض الغربيين الذين يزعمون أن الإسلام ما كان سينتشر في العالم لولا السيف والجزية يغفلون حقيقة كبيرة هي أن الإسلام في آسيا، حيث العدد الأكبر من المسلمين، لم ينتشر بالسيف أو بالجزية بل انتشر انتشاراً سلمياً مطلقاً على يد التجار الذين حملوا الإسلام مع تجارتهم ووضعوا أرباحهم في خدمة نشر الدين[6]، وعلى يد المتصوفين الهنود الذين تأثرت بعض مدارسهم بالمتصوفين من الشام، ثم طوروا طرائقهم وقدموا مساهمتهم الجليلة المعروفة في الفلسفة والآداب الإسلامية، ومساهمات فلسفية وفقهية أخرى لم يكن القصد منها خروج التطبيقات السلبية التي رأيناها في أفغانستان على يد الطالبان أو في فكر الجهاديين.
وما نريد تأكيده هو أنه لا توجد قدسية من أي نوع في الصراع على السلطة، ولا مبرر للقدسية عند الحديث عن أطراف الصراع على السلطة، ولا علاقة للدين بكل ما فعلوه من أجل الاستفراد بها. ونعرف اليوم ما كان العرب يعرفونه قبل أكثر من 1200 عام بأن الدين زُج في الصراع ولم يكن أساسه، ولذا رأوا آنذاك ما يرونه اليوم من أن الحق والباطل لا يستويان، ولا الإيمان والكفر أو العدل والظلم أو الشرعيّة والاغتصاب حتى لو أدخل الصراع السلطوي نفسه عبر بوابة الدين أو الأقليات المظلومة وكأن الغالبية ليست في مرتبة الظلم نفسها. ورأى العرب، وهم يتجادلون في شرعيّة الحكم بعد مقتل علي بن أبي طالب، يرحمه الله، ثم بعدما قام المأمون على أخيه أن الحارث المغتصب يخطئ خطأ كبيراً إن ظن أن الوارث شرعي ولن يلبث أن يمد الحارث في مماته بالشرعيّة التي لم يتمكن منها في حياته وتقوم سلالة الخير على أفعال القهر والشر ويقبل الناس الأمر الواقع ويقولون عفا الله عما مضى. والوارث على خطأ الحارث، بل أكثر إمعاناً في الخطأ، إن ظن أن السلطة المشبعة بالظلم ستصبح سلطة العدل بين يديه. الشرعيّة لا تقوم على اغتصاب ولو بعد ألف عام.
فكروا بما تقدم ثم انظروا في العهد الأقرب إلى بينوشيه: كان يصر على أن يُدعى برئيس الجمهورية لكنه جنرال مغتصب للسلطة شاء أم أبى ولا يعرفه التشيليون اليوم إلا باسم الجنرال. لا يوجد التباس هنا ولا غفلة ولا ظن حسن في نية أصلها سيئ. إن عرف الوارث أن المال الذي سلّمه الحارث له مسروق فهو شريك ولا يستطيع إنكار شراكته في العمل الأول. هذا ليس صكاً خفيّاً بوراثة خفيّة بل حكم ظاهر للناس لا يخفى على أحد. حبل السلطة لم ينقطع بينهما فهو استلام وتسليم ولذا ورث الوارث الحكم بمعرفة بأصوله وبمبايعة الحارث له وليس بمبايعة الأمّة فما ورث إلا الاغتصاب في زمن أبعد من زمن الاغتصاب الأول لكن طينة الاغتصاب المجبول منها هي الطينة نفسها. المال المسروق مسروق في كل الأزمان والأوقات والحالات ولصاحبه الحق باسترداده ولو بعد ألف عام.
كل ما جوهره باطل فهو باطل، لذا فإن كل هذا الكلام عن الجيل القديم والجيل الجديد والحرس القديم والحرس الجديد ضباب ومرايا لا تعكس إلا الضباب حولها. خارج سلطة الظلم لا توجد سلطة أخرى لأن التسلّط لم يحتمل المنافسة في أيام الأمويين أو في أيام العباسيين أو في أيام الفاطميين ولا يحتمل المنافسة اليوم. ومن باب استغباء الناس الادعاء بأن قوائم كرسي الحكم القديمة ستُفصل لتحل محلها القوائم الجديدة لأن كرسي الحكم سيسقط عندما تسقط أول قائمة قديمة. هذا الكلام لامتصاص النقمة لا أكثر وحذّرنا الله تعالى من قوم مثلهم إذ قال: “يُرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم”.
لم يقرأ أرباب الأنظمة سيرة الظاهر بيبرس لذا لم يبدأوا صفحة جديدة لأنهم لم يجدوا حرساً جديداً لأن الحرس القديم لم يبق على أي حرس غيره. كان بيبرس يستطيع أن يكسّر كل رؤوس المعارضة ويستقدمهم إلى مكاتب المخابرات واحداً بعد الآخر ويجبرهم على مبايعته لكن بيبرس العجمي كان يعرف من العربية ومن الدين ما يكفي ليستنتج بأن يمين الإكراه باطل ولذا فإن المبايعة بالإكراه باطلة. لا يكفي أن يقول رهط الأنظمة لابن رئيس النظام إن حكمه شرعي لكي يصبح حكماً شرعيّاً. الناس في الدول العربية يعطون الشرعيّة، وماذا يعطي النظام غير الشرعي سوى اللاشرعيّة؟ الخطأ ليس خطأ الجيل الجديد. اعتاد رجال الأنظمة أن يقولوا نعم للأب في كل شيء لأنه كان يريدهم أن يقولوا نعم في كل شيء فقالوا للابن ما كانوا يقولونه للأب.
أول شيء علّمه الإمبراطور أغسطس لأحفاده أن المَلك ممنوع عليه أن يظهر الخوف حتى لو كان يرتعد في داخله مثل الشجرة الضعيفة في الريح القوية. المحيطون بالزعماء العرب ليس أسوداً لكنهم ليسوا خرافاً ويستطيعون أن يشمّوا رائحة الخوف في الأسد إن خاف لذا لم يكن على الزعماء ألا يُظهروا الخوف فقط بل ألا يشمّ أحد رائحة خوفهم. لكن رائحة الخوف فاحت الآن ولا يوجد شيء يستطيعون القيام به لإجبار الناس على نسيان ما شموّه بعد زوال الخوف الأكبر.
مهما عمّر الحاكم الظالم فإن الشعب أطول عمراً منه. ومهما حاول طمس آثار خطواته لاغتصاب السلطة فإنه سيعجز لأنه يستطيع أن يرمي الناس بالمدفعية وأن يرميهم في السجون وأن يصادر حرياتهم وأن يختطف مستقبلهم لكنه لا يستطيع أن يدخل إلى كل عقل وإلى كل ذاكرة وينتزع منها الحقائق التي يعرفها. لا يمكن نسيان الظلم لأنه لا يمكن نسيان الألم لذا لم يفقد أسبان كثيرون الأمل بالعثور على أمهاتهم وآبائهم في بلدة إسبانية نائية أو قرية على رأس جبل بعيد لم يسمع أخبارهن أو أخبارهم منذ سار فرانكو بجيشه وفتك بكل من وقف بطريقه كما فتك الفاتحون الأسبان بالأزتك والمايا في أميركا الجنوبية.
ويوم قضى فرانكو بعد طول نزاع مع الموت، دفنوه في ضريح فرعوني ضخم أجبر أسراه على بنائه معروف باسم “وادي سانتا كروز للأموات” (Santa Cruz del Valle de los Caídos). وجاء خوسيه لويث زاباتيرو رئيساً للحكومة على أنقاض حكومة المحافظين التي تزعمها خوسيه ماريا أثنار ونظر إلى إرث فرانكو فرآه على حقيقته: رمزاً للظلم لم يعد له مكان في أسبانيا الحرة. وعندها أزاله بموافقة الشعب وحوّل الضريح إلى نصب للديمقراطية. بعدها بدأت المدن والقرى تخلع إرث فرانكو فأزالت اسمه وتركته من الساحات والشوارع التي كانت تحمله أو صفاته (جنراليسيمو) وقلعت تماثيله من أساسها وكان آخرها تمثال ضخم في مدريد أودعوه المصاهر في احتفال مهيب في آذار (مارس) 2005. وعندها فقط استنشق الأسبان هواءّ لم يلوثه فرانكو بصورة أو تمثال أو ذكرى، وضحكوا من القلب عندما سمعوا الكوميدي الشهير يقول لجمهوره: “وصلني الآن نبأ عاجل عن فرانكو وأحب أن أزفّ إلى الجمهور خبراً ساراً هو إن الديكتاتور الأسباني لا يزال في قبره، ولا يزال ميتاً”.
*من كتاب: تاريخ الظلم العربي في عصر الأنظمة الوطنية، (2005) الصفحات: 163-178
[1] المهيّج المدمّر، ويقصد أنه مثل النار التي لا تبقي ولا تذر.
[2] تاريخ الطبري، ج 11، ص 1098.
[3] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 216.
[4] الجاحظ، كتاب الحيوان (مختارات)، منشورات وزارة الثقافة، (دمشق، 1979)، ص 138.
[5] الجاحظ، كتاب الحيوان، ج 5، ص 325.
[6] ومن أمثلة ذلك مسجد بُني في القرن الثامن الميلادي أو نحوه في حي “نيو جيه” ببكين على يد تاجر من دمشق لم أتمكن من معرفة اسمه، ومدخله يبدأ يميناً بأول سور القرآن بكتابة مذهبة وينتهي بآخر سورة فيه. والمسجد مُصوّر في حلقة من خمس حلقات في فيلم وثائقي عن الإسلام في الصين اسمه ” المسلمون في طريق الحرير” أعددته بمساعدة بعض الزملاء في نهاية السبعينات.