الأصل في الكلام النطق لا الكتابة، وأساس الكلام المحكيّات لا الفصحى التي ابتكرها، كما يبدو، كتبة الملوك والكهنة والشعراء، وغيرهم. ويمكن تحديد بعض الكلام الذي يرجّح البعض ابتكاره أول زمان النطق، فهو كلام الحاجة. ويمكن استعراض المنحوتات البسيطة التي عُثر عليها صدفة في موقع المچر، جنوب غربي جزيرة العرب، وتفحّص بقايا عظام السمك والطيور والحيوانات في الموقع، والاستنتاج أنها كانت بقايا ما أكله أهل الموقع قبل ألوف السنين.
ويمكن أن يسأل المرء نفسه، أو الآخرين، من أين جاءت محكيّات العرب؟، ويمكن أن يسأل نفسه والآخرين من أين جاء الكلام؟ وتبدو الإجابة بسيطة فلا يشترط إثبات وجود هذه الحيوانات اكتشاف منحوتاتها لأن الناس يعرفونها في كلامهم، ولو لم تكن لفظاتهم لما كان في الكلام اليوم أسماء الجمل والعنز والثعبان والظليم والأيل والسمك، وغيرها العشرات. ولو لم يكن معظم هذه الحيوانات في البيئات التي عاش فيها الناس قبل ألوف السنين لما ابتكر الناس اللفظات التي دلّت عليها.
وقول البعض إن اللغة نظام حي يتطور باستمرار صحيح، لكن الانسان في بيئته الطبيعية لم يبتكر كلاماً للدلالة على أشياء أو حيوانات لا يعرفها في البيئة، أي انّ كلامه واقعي عموماً. ومن يفكّر بالكلام الذي يسمعه اليوم ربما اكتشف أنه خليط من كلام الأزمان كلها، فعلى الألسنة بعض النوى اللغوية التي ابتكرها أهل الزمان الأول في العصر الحجري، وهي النوى على ألسنة الناطقين بالعربية في القرن الحادي والعشرين، كما هي، أو في اشتقاقاتها.
ويستطيع الباحث في محكيّات العرب الاستنتاج أن محكيّة الشام غير محكيّة مصر ومحكيّة مصر غير محكيّة المغرب ومحكيّة تونس غير محكيّة اليمن، فهذا يقول «تم (فم)» وهذا يقول «بؤ»، وهذا يقول «مرّة» والآخر «كثير» والثالث «برشة»، وذاك يقول «شلونك» والثاني «أزّيك»، وهكذا. ويستطيع الباحث نفسه الاستنتاج أن مظاهر الاختلاف في لفظ المحكيّات أقل من مظاهر التشابه أو التماثل، وأن ناطقين بالعربية الحديثة من قريتين مختلفتين، واحدة في موريتانيا والأخرى في جنوب العراق، سيستطيعان في النهاية التفاهم على معظم ما يريدان التفاهم في شأنه إذا تجاوزا كلام البيئة الذي يختلف من مكان إلى آخر، فعلى الباحث ألا يتوقع أن يستخدم ابن بيئة زغوان في تونس كل كلام ابن بيئة دير الزور في سورية.
وإحلال لفظة جديدة محل لفظة محكيّة قديمة يمكن أن يعني اقتلاع القديمة من نسيج الكلام، وهذا في المحكيّات مثل قلع الضرس، لذا في المحكيّة أقدم الكلام، فهو إذاً طبيعي، والكلام الطبيعي يخلو من البديع وينفر من الصنعة لأنها تستولد معاني جديدة ربما لم يوفّق مبتكرها في تحقيق الارتباط الواضح بين المعنى الأصلي والمعنى المستعار. أما بديل البديع والصنعة في كلام المحكيّات فهو الأمثال والصورة والتشبيه، وبعض حالاته تتسم بطرافة يندر وجودها في كلام النصوص. ومن الأمثلة الشائعة وصف الكثير الحركة بأنه «مثل بيضات المغربل»، باستحضار صورة المغربل وهو يهز المنخل يميناً ويساراً، وتشبيه الكسول ومن لا يطلب العمل للارتزاق بمن يجلس تحت شجرة تين ويفتح فمه في انتظار سقوط الثمرة فيه، أو «طب الجرة على تمها (فمها)، البنت بتطلع لأمّها».
والقول الأخير ملفت لأنه يكشف للباحث أحد أهم أسباب استتباب كلام المحكيّات عبر الألفيات في العموم، ذلك أن أقرب فردين في معظم الأسر هما الأم وابنتها. والابنة بالطبيعة أم أولادها عندما يحين الوقت، وستكون ابنتها الأقرب إليها، مثلما ستكون ابنتها يوماً أم بناتها، وسيستمر هذا الوضع ما استمرت الحياة.
وبما أن محيط معظم النساء بيوتهن وبيوت جاراتهن، فإن انفتاحهن على محيط المجتمعات العام كان أقل عادة من الرجال، مما ساهم عموماً في استتاب كلامهن مقارنة بالرجال، وانتقال الكلام من الأم إلى البنت ومن البنت إلى بناتها، فهو كلام ابتكره الناس لحاجة فرضت نفسها، واصطلحوا عليه بالتوافق، ولا حاجة لابتكار كلام جديد له المعاني نفسها، مثلما أنه لا حاجة لاكتشاف طريق جديد إلى أميركا فمكانها معروف.
ولا يجد أهل المحكيّة غضاضة في استعمال كلام مستورد مثل «الراديو والتلفزيون والكومبيوتر والبامبرز»، وغيرها، لأن كلامهم الأصلي لا يتضمن لفظات مناسبة للدلالة على أشياء مهمة مثل هذه صار التعبير عنها حاجة. وإذا تبدّت مثل هذه الحاجة ساق أهل المحكيّات على المستورد من الكلام قواعد كلامهم. ولفظة «ظلام» من كلام العربية الحديثة، لذا لا نجده على لسان أهل المحكيّة ففي كلامهم لفظة أدق هي «العتمة» (من كلمة أصل معناها الموت أو ظلمة الموت)، لكن إذا نطقوا كلمة «ظريف» أبعدوا التسنين من نطقها. وإذا نطقوا كلمة مثل «ذكّرني» لفظوها بالزاي (زكّرني)، فنطقهم صحيح لأن الأصل بالزاي لا بالذال كما في الآكادية: zakāru.
مثل الآكادية والانكليزية وغيرها من لغات أوروبا أساس العربية أصول ثنائية من حرفين لجأ الناطقون قبل ألوف السنين إلى توسيعها بإضافة حرف ثالث إلى الثنائية كما في الثلاثيات أو جمعوا أصلاً ثنائياً إلى أصل ثنائي آخر لخلق كلمة جديدة مثل طنبر وفركش وبحبش وطربش ومئات غيرها خصوصاً في العامية. الصورة هنا للثنائيين جع وعج وهما أساس العد المبني على الحصى في العصر الحجري (عادل بشتاوي مؤلف كتاب “أصل الكلام”).
وللخوف أصل طبيعي، فـ«خوف» هي الكلمة الأكثر شيوعاً في المحكيّة لا «الرهبة» أو «الرعب» أو «الارتعاد»، فهذه من كلام الأديان، وكلها، وغيرها، لاحقة على «خوف».1ويستخدم أهل المحكيّة في حالات الخوف الأشد لفظة «رعب» مشددة: «رعّبتني». وهذا تعبير عن خوف طبيعي آخر متأصل، كما يبدو، في العقل الكامن، هو الخوف من الرعد، وهي من نسائل *رع، مما يمكن أن يعني أن الكهنة، قبل خمسة آلاف سنة وربما أكثر، لجأوا إلى ظاهرة طبيعية مثل الرعد لم يستطع الناس معرفة سببها لتخويف «الرعيّة» من «الراعي»، أي مرسل الرعد، فهذا أصل الكلمة التي تنتمي إلى الفصيلة اللغوية الدينية ✥رع ⇄عر.2
وملفت في المحكيّة أن فعل الرؤية هو «شفت» لا «رأيت» أو «نظرت»، لكأنه فعل من الشف، وهو ضرب من الستور يرى ما وراءه فهو ليس فعلاً طبيعياً. وأقدم كلام النظر *رأ، لكنه مهموز متغير، فيقال: «رأى» و«رأت»، لكنه للمتكلم «أرى»، أي «أرأ»، فهذه ليست نسيلة بل سابقة ثلاثية. لكن في المحكيّة وريني، أو ورجيني، بمعنى «أرني»، فهذه من نواة مختلفة هي *رن، والرنو هو «النظر المديد».
ويستخدم أهل المحكيّة النور أو الضوء بالمعنى نفسه تقريباً، لكن استخدام «نوّرني» يكشف أصل النور في الكلام، وهو النار، فإنما النور في الأصل هو الضوء الذي ترسله النار لا غير. وكلا النور والنار من أصل ثنائي واحد هو *نر (نار) وقرينته *رن، فهذه وحدة لغوية مدهشة، وفصيلتها (✥رن⇄نر) من الفصائل اللغوية الحرجة لاتصالها باكتشاف طريقة إيقاد النار في الوقت الذي يناسب الانسان لا الوقت الذي يناسب الطبيعة، كما في اشتعال الحرائق نتيجة الصواعق أو الاحتكاك الطبيعي الشديد.
والأنف في محكيّات العرب منخار(منخر) أو خشم. ونخر الشيء «ثقبه»، كما ينخر الدود الخشب، فهذا اسم طبيعي، أو بدائي، للأنف لأن أهل الزمان الأول رأوه مثل أي ثقب آخر في خشبة أو حجر. و«أنف» سابقة ثلاثية للنواة *نف يُستخدم في محكيّات الشام ليعني توجيه تيار هوائي إلى ثقب واحد أو الثقبين معاً لطرد المخاط.
والكلام القديم جامع، فالنف هنا فعل توجيه الهواء، لكنه يعني أيضاً الهواء (نفنف)، ومنه عمل الشهيق والزفير (نفس، فهو نسيلة نف)، والنفس تعني الذات أو الذات الحيّة لأن الميت لا يتنفس، فكأن النفس كناية عن الحياة. ولو نُظرت ترجمة *نف في المعاجم لاختلف المعنى، وهذا بعض ما في ترجمتها: «روى الأزهري عن المؤرج: نففت السويق وسففته وهو النفيف، والسفيف لسفيف السويق».
ويلاحظ في الترجمة أن الشارح اعتبر *نف و*سف بمعنى واحد، لكن أهل المحكيّات يفرّقون تمام التفريق بين النواتين، فلا يقولون: «سف مخاط أنفه»، فهذا كمن يشفطه، ولا يقولون: «نف السويق»، فهذا كمن يطرده نفخاً بالأنف، بل «سف السويق». والسّفافة في محكيّات الشام مسحوق الحمّص المحمّص. لكن يقتضي التنويه أن *سف من كلام اليمن وأصل فائه باء مثلثة (p)، وهو من كلام الحضارة والصناعة بامتياز فمنه «سيف» و«سفن».
ويتضح قدم المحكيّات من كثرة المضاعف (بربر، طبطب، زلزل، فرفر، حلحل، فلفل) والمتوالف (خنجر، طنبر، عنكب، أرمل، هرول، مرهم) في نسيجها، فكلا هذين المبنيين أسبق من النسائل الثلاثية (شرب، لعب، سمع، قلب). ويستطيع الباحث اعتماد معظم معاني المضاعف في المحكيّات، كما لا غنى له عن استشارة المحكيّات لتحديد المعاني الاصطلاحية لعدد كبير من المتوالفات، والأهم من تلك وهذه، استشارة المحكيّات للوصول بسرعة إلى أقرب معاني النوى اللغوية إلى معاني أصولها الأولى.
و«أروش» (الكلام غير البيّن أو ضجة الكلام) من طريف محكيّة الشام. واللفظة، كما يبدو، ليست لغة في «قروش» بل ثنائي متوالف من «أر»، بمعنى الغزل، و«وش» أي الوشوشة، فهو، إذاً، كلام العشّاق يتهامسون به لئلا يسمعهم الآخرون. والوسوسة لغة في الوشوشة في الأصل، لكن هذا لا يحل محل الآخر في كلام المحكيّة فالوسوسة عندهم هي المخاوف والشكوك الباطنية غير المحسوسة، أي النفسانية، وهذا أصل المفهوم الذي استعاره كلام الدين في الألفيات اللاحقة وارتبط بالجن والشياطين ونحوهم.
إيقاع الكلام
يفيد الباحث في تأصيل كلام العرب والعاربة أن يستحضر دائماً طبيعية البيئة التي ولد فيها أول الكلام والجماعات البشرية التي ابتكرت الكلام في البيئات التي عاشت فيها. والسبب منطقي لأن الكلام الطبيعي لا يسبق الشيء الطبيعي الذي يدل عليه، وما ينطبق على الماضي ينطبق في حالات على الحاضر، ذلك أن إنسان العصر لم يبتكر كلام «التلفزيون» و«الكومبيوتر» قبل أن يبتكر التلفزيون والكومبيوتر. وعلى الباحث أن لا يضم إلى الكلام القديم الكلام الذي لا يوافق الزمان القديم، فلم يكن في أول الزمان الحديد وورق الكتابة والثياب المصنوعة من القماش ولفظات البديع والمفاهيم الدينية والأخلاقية التي لم يعرفها الانسان إلا في فترة حديثة نسبياً واكبت الأديان عموماً، ومعظمها سحب.
وإذا انتهى المرء إلى أن معظم الكلام ثنائي وثلاثي، فربما كان من المنطقي الانتهاء إلى أن إيقاع الكلام الأصلي ثنائي أو ثلاثي، أو أن معظمه مؤلف من حركة وسكون، أو حركة وحركة وسكون، أي تبسيطاً: «تَمْ، تَرَمْ»، وبذا يكون الثنائي «تم»، والثلاثي «ترم». والثنائي هو النوى اللغوية (حأ، خت، لح، خل، قب)، وهو مكرر النواة اللغوية في المضاعف ونواتين مختلفتين في المتوالف. أما الثلاثي فهو في سوابق النوى الثلاثية (قتل، وجد، وصل، نصح، سجد) وفي النسائل الثلاثية، ولم يكشف البحث في الكلام غير هذه الأبنية. والبرهنة على ذلك سهلة لأن هذه المباني في النصوص كما هي في المحكيّات، وهي في الكلام قبل خمسة آلاف سنة، وربما أكثر، وفي كلام الجاهلية والعربية الحديثة، وفي كلام العصر.
والنواة *حد ليست من أول الكلام، لأن مفهوم الحدود بين الأشياء مفهوم متطوّر، لكنها ليست آخر النوى اللغوية التي ابتكرها أهل الزمان الأول، لأن مفهوم وجود الإله (إل) يتطلب وعياً أعمق بكثير من الوعي بالحدود بين الأشياء. ويمكن القول إن ازدياد وعي الانسان انعكس، في حالات، على ابتكار الكلام المعبّر عن ازدياد الوعي بأنواعه. ويمكن الافتراض أن الانسان ابتكر العدد واحد (*حد) قبل العدد اثنين (*تن/*سن).
وحالة المثنى في العاربة (آكادية: سن/شن šinnu)، والعربية الحديثة، لكن ليس في الكثير من اللغات الرئيسية الأخرى اليوم. وسبب وجوده أن هذا العدد، في المجتمعات الانسانية الأولى التي يُقال أنها كانت 250- 600 شخص، عدد مهم، فيما كان العدد خمسة عدداً ضخماً (منه الخميس، أي الجيش الجرار)، وكان العدد عشرة يعني العشيرة، فهي من عشر، نسيلة النواة *عش.
ويمكن وصف المجتمعات التي وجدت حاجة للدلالة على عدد نعتبره اليوم بسيطاً، مثل ثلاثة، بأنها كانت مجتمعات «بدائية». وهذا وصف منطقي استنتجه مؤلّفون، منهم المؤرخ فيليب حتي، الذي رأى أن العربية «أقرب ما تكون إلى صورة اللغة البدائية التي يعتقد الباحثون أنها كانت اللغة السامية» (تاريخ العرب، ص 12).3 ومع ذلك تقتضي الاشارة إلى أن اللغة التي يعتبرها مؤلف في القرن العشرين «بدائية» ربما اعتبرها أهل الزمان الأول لغة غاية في التطوّر قياساً إلى كلام الآخرين في المجتمعات التي عرفوها.
ويعتمد نطق الكلام وفهمه وترديده على عدد من العوامل المتصلة بالقدرات العقلية والثقافية التي تختلف بالضرورة من شخص إلى آخر. والنطق من المهارات المكتسبة، فبعض الناس اليوم أفضل في التعبير من آخرين، وعلى المرء الافتراض أن الأمر انسحب على المجتمعات الأولى. لكن تجدر الإضافة أن كلام المجتمعات الأولى كان كلام الحاجة، والكثير من الحاجات طبيعية، والطبيعي لا يتضمن، في العادة، معاني السحب في الشعر وبعض أنواع النثر، فهذه من المظاهر اللغوية الحديثة نسبياً.
وبما أن النوى اللغوية كانت عماد الكلام في العصور التي سبقت التأريخ، فمن الممكن الافتراض أن الاختلافات اللغوية بين أفراد المجتمعات الأولى لم تكن كبيرة لبساطة بناء النوى اللغوية. وإذا استنتج المرء أن الثنائي والايقاع الثنائي أكثر شيوعاً في المحكيّات من كلام النصوص، يمكن الاستنتاج في الوقت نفسه أن نسيج المحكيّات، لا كلام النصوص، هو الوريث الأقرب إلى كلام العرب العاربة ومن سبقهم، وأن الكثير من قواعد المحكيّات قواعد الكلام الأول التي كانت قياسية في معظمها، وغاية في البساطة.
والكلام اليوم كلام نسيج المحكيّات، وكلام النصوص، ويتلاقى كلام الصنفين في حالات، ويفترق في حالات، فربما كانت مفردة ما في النصوص خطأ وفي نسيج المحكيّات صحيحة، وربما صح العكس، فلكل لفظة حالة تتطلب دراستها دراسة مناسبة قبل تحديد بنائها ومعانيها.
ومن الباحثين من يعتقد أن كلام النصوص أكثر تآلفاً من كلام نسيج المحكيّات نتيجة أسباب منها الإسناد المعتمد على النصوص الدينية، وما نقل عن أهل الشعر، وإشاعة هذا النوع من الكلام في الكتب المدرسية والجامعية دون غيره من كلام نسيج المحكيّات التي يعتبرها بعض اللغويين من «ضعيف الكلام». وهذا وضع قائم أنتج حالة اختلال لغوي في مجتمعات الناطقين لقلة الدراسات الجادة في طبيعة نسيج المحكيّات وأصالتها.
ويمكن الرد على ما تقدم بالقول إن النصوص كلام التخليد، وإن التخليد حالة لاحقة على النطق، فهل كان في مرحلة النطق الطويلة حالات لغوية تشبه حالات المحكيّات والفصحى اليوم؟
والجواب أننا لا نعرف، فلفظ كلام من خمسة حروف أو أكثر أمر عادي لمعظم الناس اليوم. لكن الانتقال من الأصول الثنائية إلى السوابق الثلاثية قبل نحو خمسة آلاف سنة، أو أكثر، كان مشكلة لكثيرين اعتادوا النطق بكلام الاثنين لأن حركات اللفظ تغيرت عندما اجتمع في الكلام الجديد متحرك ساكن (تَمْ) ومتحرك متحرك ساكن (تَرَمْ) تتابعا بلا انتظام فتغير قياس الكلام أو وزنه وإيقاعه بصورة جذرية.
وهكذا بدأت مرحلة جديدة من طريقة لفظ الكلام، فوجد جمهور الناس صعوبة في التعامل مع تغيّر إيقاع الكلام، فسعوا إلى الالتفاف على الكلام ذي الحركتين المتواليتين في فواتح اللفظ، وتطويع باقي الكلام لاستيعاب الايقاع الثنائي بالتسكين وتقليص مدّات الحركات والتشديد الخفيف الذي لا ينتج حرفاً مضاعفاً كاملاً. ولو درس الباحث مئات اللفظات لوجد الكثير من حالات تثنية الكلام قدر الامكان، كما في: «ورّيني»، «قلتلّه»، «سمّعني»، «بعّدني»، «لعّبته ولعّبني، وقوّمني وقوّمته، وسمّعلي وسمّعتلّو» وغير ذلك.
وفي الكلام أفعال في صيغة الأمر تبدأ بالألف، بعضه لغات القبائل وبعضه إضافة أهل اللغة مثل: ادخل، العب، اسمع، اكتب، امسح، اجرح، اسعد، اشدد، اعصص، أحطط، أطلل، وغيرها، فيما تستخدم أفعال أخرى في صيغة الأمر بلا ألف، أي في مبنى الأصول الثنائية: حط!، قم!، كل!، وغيرها. وواضح في كلام المحكيّة أن تسبيق الثنائي بألف لم يكن قائماً في بداية الكلام فيقولون: شد!، عص!، حط!، طل!، وغيرها. أما في الحالات الباقية من الأمثلة فإنهم يليّنون بالألف أو الواو. هذا إذا كان فعل الأمر ثنائياً، أما في حالات النسائل الثلاثية فللمحكيّة قاعدة تحكم بعض حالات استخدام صيغة الأمر في الأفعال الثلاثية، لكنها ربما كشفت أيضاً الأصول الثنائية لهذه النسائل. ويتحقق ذلك بتسكين الحرف الأول وبإضافة حرف لين بعد الثنائي وقبل حرف الاستنسال الثالث، هكذا: سْعادْ (أصلها الثنائي سَع)، لْعابْ (أصلها الثنائي لَع)، مْساحْ (أصلها الثنائي مَس)، كْتوبْ (أصلها الثنائي كَت)، جْراحْ (أصلها الثنائي جَر)، وهكذا.
ويُوجز بالقول إن من يعتقد أن الناس في الألفيات السابقة نطقوا بالكلام المتحرك، وأن المحكيّة وليدة الجهل لم يأخذ في الاعتبار التأثير الذي تركه انضمام السوابق الثلاثية ثم النسائل الثلاثية إلى الكلام، وإنّ بدء افتراق المحكيّة عن الفصحى قديم جداً بدأ، كما يبدو، في منتصف العصر الزراعي قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. وتسبب الافتراق، ربما عن غير قصد، في بدء فرز شبه اجتماعي استمر إلى اليوم: كثيره عامة الناس، وقليله فئة النخبة، وفرز تعبيري: كثيره الشعر الشعبي وقليله الشعر الموزون.
ومع ذلك يُعتقد أن افتراق المحكيّات عن الفصحى في الألفيات الماضية بقي محدوداً لأن الباحث يستطيع تحديد الكثير من كلام أهل الزمان الأول والعاربة في محكيّات اليوم. وحملت العربية الحديثة من مدارس العراق إلى الكلام تغيّرات جذرية فتحوّل الافتراق إلى شرخين أفقي وعامودي واضحين لا يُرى في مسار تطوّر الكلام سبيل واضح إلى تجاوزه. وعليه يرجّح استمرار هذا الشرخ، وربما تعمّقه، فيما تتجه المحكيّات إلى استعارة الكلام الجديد من مصادره مباشرة، ويستمر القصور البحثي في التعامل مع المحكيّات بالجديّة التي تستحقها وريثة أقدم اللغات المعمّرة في تاريخ الانسان.
وتفوق أهمية الاصطلاح اللغوي في بعض الحالات أهميّة القواعد، لكن الاصطلاح، بطبعه، يتطلب اصطلاح معظم الناس. ويبدو من مراقبة عدد من المحطات التلفزيونية أنّها أدّت دوراً ملحوظاً في إشاعة انتشار نوع من الفصيحة بين فئات كثيرة من الناطقين بالعربية الحديثة، يفوق بكثير تأثير استمرار محطات أخرى في استخدام المحكيّات. ويمكن في الوقت نفسه ملاحظة جنوح البعض إلى خلط استخدام بعض خصائص الفصيحة بالمحكيّات. وهذه من مظاهر اللفظ التي ربما كان مفيداً تشجيعها، والعمل في الوقت نفسه على تجنّب التشديد المفرط على اتباع جملة اجتهادات اللغويين الأوَل لغلبة الصنعة والاصطناع على أعمالهم. وهذه نتيجة مُتوقعة لأن العربية لم تكن اللغة الأم للكثيرين، وربما كان هذا أحد أسباب غياب مباني الكلام الحقيقية عنهم وتأصيل الكلام في مشتقات الكلام لا في جذوره الثنائية، والمساهمة في تعميق الشرخ بين كلام النصوص وكلام المحكيّات، والاخفاق، بالتالي، في تحقيق اصطلاح الناس على النطق.
تراكم الكلام
يشترك معظم صنوف العلوم الانسانية في خاصيّة أساسية هي التراكم الذي تستدعيه الحاجة. والتراكم متدرج بالطبيعة، أي أن الانسان احتاج إلى التعبير عن العدد «واحد» قبل الحاجة إلى التعبير عن العدد «عشرة». ويقتضي التراكم المعرفي العددي المواكبة بالدلالات اللفظية العددية، ومع ذلك فإن عدد الحروف الصحيحة للعدد «واحد» يساوي عدد حروف العدد «عشر»، أي ثلاثة حروف، فيما يفصل مفهوم العدد واحد عن العدد عشر ألوف السنين.
وتبيّن بعد البحث والمقارنة أن النطق يخضع لمبدأ المراكمة المعرفيّة، مثله مثل باقي المعارف، وأن مبنى الثلاثي الصحيح حالة لغوية متطوّرة فهو ليس أصل الكلام، كما يُشاع على نطاق واسع في مؤلفات علوم اللغة والمعاجم. وإذا كان العدد «عشر» يتألف من ثلاثة حروف فمن المنطقي الافتراض أن العدد «واحد» تألّف من عدد أقل من الحروف. وللعدد «واحد» أصل قديم هو حد، لكن تبيّن أيضاً أن العدد «عشر» مُشتق من أصل أقدم هو عش. وكلا حد وعش مؤلف من حرفين، أو من «نواة» لغوية أو «مقطع أحادي»، وربما قيل عن الصنفين إنهما من بناء «الثنائي»، فهذا تعريف عام بدلالة نظر العين.
ولم يكشف البحث أصولاً أقدم من الثنائي يمكن البرهنة على وجودها، فتتابعت الدراسات البحثيّة وفق افتراض جديد ومنهجيّة جديدة: إذا كان أصل أقدم الأعداد (واحد) النواة الثنائية (حد)، فربما كان منطقيّاً الافتراض أن أقدم الكلام يتألّف أيضاً من النوى والمقاطع الأحادية، أو الثنائي. وتطلبت البرهنة على صحة هذا الافتراض تفكيك مئات اللفظات ثم إعادة بنائها بتأصيلها في النوى أو المقاطع الأحادية. وكشف التأصيل النمطي صحة الافتراض، لكنّه كشف في الوقت نفسه وجود خمسة مبان لغوية اختلفت اختلافاً جذرياً عن المباني الشائعة في مؤلفات علوم اللغة والمعاجم كافة. وطرح هذا الاختلاف عدداً من الأسئلة عن طبيعة معارف الكلام التي عرضها أهل اللغة والمعاجم في القرون الهجرية الأولى وجملة الأسانيد والمراجع في كتبهم. ولوحظ اختلاف بين قطعيّة الثبوت وقطعيّة الدلالة لم يتمكن البحث من مصالحة وجوده في ترجمات المعاجم، مما أثار الدهشة والحيرة في آن.
واقتضى تقصّي حال الكلام توسيع نطاق البحث ليشمل بعض لغات العاربة، خصوصاً الآكادية والكنعانية، أو الفينيقية بنوعيها القديم والأحدث. وتبيّن في مرحلة جديدة من البحث أن أحد أهم أسباب صعوبة تحديد مفاصل التلاقي والابتعاد في الكلام، معالجته في المؤلفات اللغوية كمفردات أساسها المبنى المعروف بـ«الثلاثي»، أي الكلام المؤلّف من ثلاثة حروف صحيحة، فيما كشف عمل التأصيل وجود هذه المفردات كعناصر في «أوعية» لغوية تشترك في نطاقات اللفظ والمعاني والحالة البيانية.
وبدا واضحاً أن التراكم اللغوي والتدرّج في اكتساب المعارف أدىا في مرحلة متطورة من حياة المجتمعات الانسانية الأولى إلى تضمين اللفظات في الأوعية المناسبة للدلالة على الحالات البيانية التي اعتبرها الأوّلون مهمة في حياتهم. مثلاً، النواة عش أصل العدد عشر لكنه أيضاً أصل «عشيرة». ويمكن الافتراض أن الانسان الذي احتاج إلى الدلالة على العدد «واحد» في زمن ما، احتاج إلى الدلالة على العدد «عشر» في زمن أبعد من الأول، ثم احتاج إلى الدلالة على لفظة مثل «عشيرة» في زمن أبعد من الزمنين السابقين.
وكلا حد (واحد) وعشر (عشرة) من الدلالات الثابتة، أي أن العدد واحد لا يمكن أن يعني ثلاثة أو خمسة، ولا يمكن أن يعني العدد عشرة أي رقم آخر. أما العشيرة فهو مفهوم اجتماعي متطوّر. وبما أن عمر الكلام لا يُحسب بآلاف السنين بل بعشرات الآلاف، يمكن الافتراض أيضاً أن الانتقال من الدلالة على الحالات والأشياء بالنوى والمقاطع الأحادية إلى الدلالة على الحالات والأشياء باللفظات الثلاثية لا يُقاس بمئات السنين بل بآلاف السنين، وهذا استنتاج يمكن البرهنة عليه بتزمين كلام الآكادية.
وتطلّب الانتقال من التعبير عن الأشياء المجرّدة إلى التعبير عن المفاهيم مرحلة متقدمة من الوعي الانساني الذاتي، سبقتها مرحلة لم يعتبر فيها الانسان نفسه كائناً يختلف عن باقي الكائنات التي تعيش في بيئته. ويكشف تأصيل الكلام أن الانسان لم يكتسب الكثير من أشكال الوعي الذاتي، كما يبدو، إلا من خلال مراقبة الكائنات في بيئته، فرأى في بعض سلوكها الاجتماعي الكثير مما لم ينتبه إليه في سلوكه الاجتماعي. وإذا أمكن القول إن الطبيعية كانت معلم الانسان الأهم، يمكن القول أيضاً إن دور الحيوان في توسيع مدارك الانسان كان كبيراً هو الآخر، خصوصاً الطيور التي تعلّم الانسان من مراقبة أعشاشها مفاهيم العشرة والعشيرة والمعاشرة والرزق، ثم تعلم من القبّر كيف يقبر موتاه بدل ترك الجثث في العراء أولاً ثم إيداعها الجرار والتوابيت في ألفيات لاحقة، وأوحى إليه الوز في مرحلة لاحقة بمفاهيم الأوزان والزوايا، فيما استمد الانسان مفاهيم «الرتب والمراتب والترتيب والتراتبية» من الرت، أي «الخنزير البري».
وكلام العاربة أقدم المخلّد في التاريخ، ومن السهل تحديد مبانيه اللغوية الرئيسية الخمسة حتى في أقدم النصوص المخلدة التي تعود إلى نحو 4500 سنة. واللفظ سبق التخليد لا ريب، وبما أن أصول كلام العاربة من النوى والمقاطع الأحادية، يمكن الافتراض أن الأصول تلك أقدم بكثير من كلام العاربة لأن بعضها يتصل بأهم متطلبات استمرار الحياة مثل الماء (مأ) والطعام (كل) والجنس والحياة (أر، نك) والبيوت الأولى (بت) وحيوانات البيئة (بع، عن وفخ).
ولأقدم كلام الانسان مواصفات معروفة وُجد الكثير منها في الكلام الثنائي، فيما استبعدت الدراسة ما عرضه بعض الباحثين باحتمال وجود «لغة» أحادية الحرف سبقت ابتكار كلام النوى والمقاطع، لأن مثل تلك اللغة المفترضة عاجزة عن تقديم الدلالات المناسبة بسبب اقتصار كلامها على عدد محدود جداً من اللفظات الأحادية. وكما سبق ابتكار الأعداد الأولى ابتكار الأعداد الأكبر بألوف السنين، كذا يمكن الاستنتاج أن كلام النوى والمقاطع سبق الكلام الثلاثي وكلام الاشتقاق بآلاف السنين، لذا سبق كلام النوى والمقاطع بالضرورة كلام العاربة بآلاف السنين، وكان كلام «أهل الزمان الأول».
وأهل الزمان الأول أهل عصر الحجر وسكان الكهوف والغيران وأكواخ القصب والأغصان. والحدود الجغرافية لأهل الزمان الأول حدود بيئتهم السكنيّة والمناطق التي يتوافر فيها الماء والصيد البري، أو البحري، والفاكهة والبقول والجذور الصالحة للأكل، فإذا أتوا على ما في بيئتهم من طعام انتقلوا إلى بيئة أخرى. ولأهل الزمان الأول حدودهم الاجتماعية في عدد نسبي صغير جداً من الأسر، وعلاقة الأسر ببعضها، وأهمية تعاون الجميع لتأمين الماء والغذاء، وبالتالي ضمان استمرار الحياة والنوع بما يشمل مقاومة الأخطار التي تهددت بقاء الناس، وأهمية التعاون للتصدي لهذه المخاطر ومنها الثعابين السامة، والسباع التي كانت في زمانهم أشد فتكاً من الأنواع التي تلتها.
وحدود كلام أهل الزمان الأول حدود ما تقدم وغيرها من الحالات الطارئة أو الدائمة التي تطلبت الحاجة للتعبير عنها والدلالة عليها ابتكار الكلام المناسب وتأمين اصطلاح الأفراد عليه. ويعني هذا أن الكلام كان كلام الحاجة الضروري للاستمرار والبقاء، وتدلّ دراسته على أن الانسان الطبيعي لا يبتكر عادة كلاماً لا حاجة له به، وهو يتعامل معه بقدر حدود تعامله مع البيئة التي يعيش فيها، فيتراكم الكلام لفظة لفظة، وجملة قصيرة وأخرى. ويساير معظم الأفراد هذا التراكم الطبيعي عن طريق سماع اللفظات وفهمما وترديدها بطريقة تضمن فهم الآخرين لها. والفهم المتبادل للكلام ليس وسيلة التواصل الأساسية في كل المجتمعات فحسب وإنما وسيلة أساسية أيضاً لاستمرار الحياة وبقاء النوع لما للكلام من أهمية حاسمة في تعبئة أفراد الأسر القديمة وتنظيمهم لجمع الطعام والتنبيه على الأخطار وتوفير الحماية المشتركة.
وبما أن الكلام كلام البيئة في عصر ابتكار الكلام، فمن الممكن، في حالات كثيرة، دراسة هذا الكلام للتعرّف على طبيعة البيئة التي عاش فيها أهل الزمان الأول. وبدراسة كلام الاجتماع، يستطيع الباحث، في حالات، تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية بين المرأة والرجل، والأسرة والثانية، والمجتمع الصغير والآخر. وإذا تمكّن الباحث من فرز كلام الطعام والوحش والمساكن، فربما استطاع تحديد أنواع الطعام والوحش والمساكن الأولى.
وللباحث أن يتوقع احتواء الكلام القديم على الدلالات المعبّرة عن الحالات الطبيعية لا المفاهيم الاجتماعية والعاطفيّة التي يجدها في الكلام الثلاثي مثل «الضمير» و«الحسب» و«النسب» و«الأخلاق» و«الفخامة» و«الشرف» و«الكبرياء»، وغيرها المئات من المفردات التي انتجتها حالات ألفيّة لاحقة. ولبعض الكلام عصوره الخاصة به، فمن غير المتوقع أن يجد الباحث في كلام عصر الحجر اللفظات التي فرزها العصر الزراعي، مثل «قمح، سقى، فلح، حصد، درس وخبز»، وغيرها. إلا أن الباحث يستطيع توقّع تحديد النوى والمقاطع الأحادية التي «نسل» الناس منها هذه اللفظات.4
وفي معارف الكلام الاستثناءات الموجودة في المعارف كافة، لكن يمكن القول في العموم إن لكل عصر نشاطه وحالاته. وبما أن الكلام يعبّر عن النشاطات والحالات المهمة في العصر، فالكلام كلام العصر، وكلام مباني العصر. ويعني هذا أنه على الباحث في التأصيل النظر في احتمال استبعاد لفظات ثلاثية في عصر النوى والمقاطع. وإذا تحقق مثل هذا التأصيل فإن الباحث يرد الكلام اللاحق إلى السابق، والثلاثي إلى النوى والمقاطع الأحادية، والنوى والمقاطع الأحادية إلى أصول بعضها طبيعي وبعضها مُستمد أو مطوّر من أصول طبيعية.
الثنائية اللغوية
يواجه كثيرون من الناطقين بالعربية الحديثة وضعاً لغوياً يختلف عن وضع الناطقين بمعظم اللغات الرئيسية في العالم يمكن تسميته بـ«الثنائية اللغوية» (diglossia) أساسه الاضطرار إلى النطق بلغتين لا واحدة: الأولى هي المحكيّة، والثانية الفصيحة، فيما تنطق مجموعة صغيرة نسبياً ما يُعرف بالـ«فصحى». ومعظم الناس يتخاطبون مع أنفسهم، ومع الناس العاديين مثلهم، بالمحكيّة، فهي اللغة التي يتقنها اللاوعي لا بالتقليد في مرحلة الطفولة التي تتأسس خلالها اللغة والوعي فحسب، بل بالتأسيس اللغوي التاريخي أيضاً، لأن للمحكيّات أصل سبق العربية الحديثة بألوف السنين، وأدّت الوظيفة المتوقعة منها في تحقيق تواصل المجتمعات بنجاح مُلفت.
وتختلف القدرة التعبيرية من شخص إلى آخر، سواء كانت واسطة الكلام الفصيحة أو المحكية. كما تختلف حالات التعبير، فربما فكّر البعض بالفصيحة، وأحياناً بالفصحى، ونطق بالصنف الذي يتقنه أكثر من غيره، وربما فكر البعض بالمحكيّة ثم ترجم كلامها إلى الفصيحة، أو ربما استدعت حالة ما جمع خيوط الفكرة بالمحكيّة قبل نقلها إلى الورق أو الكومبيوتر. ولا يترجم اثنان النص ذاته بالطريقة ذاتها، وكذا الترجمة من المحكيّة إلى الفصيحة، فيصيب الإنسان في حالة ويخطىء في أخرى ويشط في ثالثة، فيما يمكن، في حالات المقابلات العلنية، ملاحظة انتقال المتكلم من الفصيحة إلى المحكيّة في حالة تشبه ما يعرف في علوم اللغة باسم «التحوّل الرمزي» code switching)) فيزج المتكلم في كلام لغة معينة لفظات أو تعبيرات بلغة أخرى يعتقد اللاوعي أنها أقدر على نقل الفكرة المطلوب نقلها، أو أن استخدامها يُحسّن صورة المستخدم أو يضعه في مركز اجتماعي أعلى من مستوى المخاطب أو في اعتبار السامع والمشاهد.
ويتعامل العقل مع الكلام بصورة غاية في التعقيد، لكن النطق المسترسل لا يتحقق إلا عندما يتولى العقل الكامن التعامل مع الجزء الأكبر من الكلام، فيصبح الكلام في هذه الحالة مثل سياقة السيارات، لا يتقنها الانسان جيداً إلا بتراكم الخبرة والممارسة، حتى أن كثيرين يستطيعون قيادة السيارات وهم يفكّرون بأشياء أخرى لا علاقة لها بالقيادة.
ويبدو أن أحد أهم أسباب افتراق الكلام إلى فصيح ومحكي تطوير السوابق الثلاثية لأن إيقاعها اللفظي ثلاثي غاير الايقاع اللفظي الألفي الثنائي الذي قام عليه الكلام. ويُعنى بذلك أن معظم الكلام قبل السوابق الثلاثية كان الحركة، بالفتحة، والسكون. لكن السوابق الثلاثية جاءت بتتابع صوتي مختلف هو الحركة (الفتحة) والحركة (الفتحة) والسكون، مما أدى إلى اضطراب إيقاع الكلام.
واستوعبت المحكيّة الكثير من السوابق الثلاثية مثل: «وقع، دخل، قتل، خبز، بخل»، وغيرها، لكن بعض السوابق الثلاثية لم تكن مهمة للناس العاديين بعدما صار هذا المبنى من المباني التي فضّلها الكهنة والخطباء والشعراء، وهي كثيرة في كلام النصوص. وأمكن استيعاب السوابق الثلاثية المفيدة في كلام المحكيّات بعد اخضاعها للقواعد التي تحكم المحكيّات، فيما احتفظت المحكيّات عموماً بالايقاع الثنائي الذي لا يزال عماد كلامها إلى اليوم.
وفي الكلام سوابق ثلاثية لبعض أقدم الكلام، كما في السابقة الثلاثية «أكل ← كل»، لكن يُعتقد أن بعض هذه السوابق انتاج عصر لاحق، وابتكرها الناس لتوسيع نطاق معاني أصلها الثنائي، أو لاختصار أهم معاني الأصل الثنائي في كلمة متفرّدة. وهذا يعني أن قسماً من السوابق الثلاثية ربما سبق مبنى النسائل الذي طوّره الناس للتعبير عن الأشياء والحالات التي أنتجها العصر الزراعي. لذا يُعتقد أن افتراق الكلام إلى فصيح ومحكي ربما بدأ قبل أكثر من خمسة آلاف عام، أي نحو منتصف العصر الزراعي.
ويردد أهل المحكية عدداً معتبراً من كلام الضاد، لكنهم يتجاهلون عادة نطق حروف الثاء والذال والظاء التي ألحقها البعض بكلام العربية الحديثة. والقاف التي ينطقها بعض أهل المحكيّات همزة، والبعض الآخر بصوت قريب من الجيم اليمنية، أو كافاً. ويشكل بدل أربعة حروف نسبة مهمة من أبجدية تتألف من 28 حرفاً، لكن هذا ليس السبب الوحيد في استمرار ابتعاد المحكيّات عن الفصيحة، وابتعادها الأكبر عن الفصحى لأن النوعين الأخيرين من الكلام محكومان بمجموعة من القواعد المتغيرة التي تتطلب من الناطق بهما الاعراب المتزامن مع النطق، والاضطرار إلى استشارة العقل الواعي بصورة شبه دائمة أحياناً للربط بين أجزاء الكلام. وهذه، وغيرها، من النتائج الطبيعية التي يمكن توقّعها عندما تتحكم النصوص بالنطق، أو في الحالات التي ابتكر بعض أهل اللغة القواعد الحديثة باستقراء الكلام القديم، فهو عكسٌ للاتجاه الطبيعي للكلام الذي بدأ بالنطق قبل أن يُضبط بالقواعد المستمدة من المنطوق لا من المكتوب.
ولكل اللغات الرئيسية قواعدها المعروفة، لكن دراسات اللغة انتقلت منذ فترة طويلة من التركيز على المكتوب إلى التركيز على المنطوق، فهو أصل الكلام في الماضي وسيكون أصل الكلام في المستقبل. ولو احتكم أهل اللغة إلى المنطوق لا إلى المكتوب، أو تعاملوا مع المحكيّات بالجدّية التي تستحقها كواحدة من أقدم ما استمر من لفظ الخلق، لما وصل الافتراق بين المحكيّات والفصحى إلى وضعه الحالي، ولما اضطر معظم الناس إلى توظيف جزء كبير من قدرات العقل الكلامية لترجمة المحكي إلى الفصيحة بدلاً من توظيف القدرات تلك لتحسين التعبير.
ويختلف الباحثون في تقييم فائدة بعض قواعد العربية، إلا أن الاتفاق أشمل في الاستنتاج أن استيعاب الناطق كل القواعد التي وضعها أهل اللغة قبل أكثر من ألف عام، إن كان ممكناً، لا يضمن تحويله إلى متكلم «فصيح». ولا يتوقع بعض الباحثين أن ينطق كل أهل العربية بالفصحى لأن الكلام اصطلاح الناس على النطق به وحاجتهم إليه، ولا يبدو أن أهل المحكيّة يحتاجون النطق بالفصحى أو الفصيحة لضمان التواصل، ولا يجد الباحث في كلامهم تعابير مثل«ضاق ذرعاً» و«استشاط غضباً» و«لا ناقة له ولا بعير» و«أدلى بدلوه في الأمر» و«صار كالقابض على الجمر»، وغيرها.
وربما قيل إن العكس ليس واقعيّاً، أي أن الناطق بالفصحى أو الفصيحة لا يستطيع الاستغناء عن المحكيّة في البيت والشارع والسوق والمقهى، وربما لن يبدو كلامه الفصيح مناسباً لسرد تفاصيل مشاهدة ما أو نكتة ما، وقليلون هم الأزواج الذين يستخدمون الفصحى في مخاطبة زوجاتهم أو أبنائهم، وربما بدا بعض هذا النوع من الكلام صنعة في غير محلها. لذا، لا يوجد، حقيقة، سبب مقنع لحمل أهل المحكيّات على النطق بالفصحى، ولا توجد وسيلة حقيقية تضمن الاصطلاح. وعليه يتوقع البحث تسارع ابتعاد البعض عن الفصيحة لأسباب عدّة منها شيوع استخدام وسائط الانترنت الاجتماعية، وربما نشوء حالة لغوية ثلاثية تتضمن استخدام المحكيّات وبعض أشكال الفصيحة ولفظات أو تعبيرات انكليزية وفرنسية. وإذا لم يتحقق للعربية الاصلاح السريع المناسب فربما وجدت نفسها تواجه مصير اللاتينية الكلاسيكية الذي يقتصر استخدامها اليوم على بعض دورالعبادة والمحافل الآكاديمية.
✽ باحث ومؤرخ وروائي، والنص هذا من المجلد الثاني من كتاب الأصول وعنوانه: أصل الكلام: لسانا العاربة والعربية وأصولهما الجنينية في عصر الحجر، أصدرته دار أوثر هاوس الاميركية قبل اسبوع. ومعظم بحوث المجلد بحوث أصليّة تُكشف للمرة الأولى في تاريخ الكلام اقتضى تقديم أكمل صورة ممكنة لمراحل تطوّر الكلام من بداياته الأولى في عصر الحجر إلى ذروته في عصر العاربة، عندما صارت لغتهم أهم لغات العالم القديم، ولسان بعض أكبر الامبراطوريات الألفية التي قامت في العراق ومصر والشام. وُعرضت في المجلد مباني كلام العاربة كما كشفها التأصيل، وبما يتضمن الفصائل اللغوية والحالات البيانية التي ضمنت، إلى حد كبير، خلود كلام العاربة لأن الكثير من هذه الحالات حالات إنسانية في كل مكان وزمان. ووُجد من المهم تقديم صورة مناسبة عن البيئات الطبيعية التي استمد أهل الزمان الأول من طبيعتها ومن كائناتها الكثير من معارفهم الأولى، وبعض أصوات حروفهم. وكان المجلد الأول صدر عام 2010 بعنوان: الأسس الطبيعية لحضارة العــرب وأصل الأبجديات والعد والأرقام والمقاييس والأوزان والقضاء والنقد.1 *ره ← رهب ← راهبات؛ *رع (إله مصر القديمة) ← رعب ← رعد.
2 مُلفت في شرح رعد: «قال الأخفش: أهل البادية يزعمون أن الرعد هو صوت السحاب والفقهاء يزعمون أنه ملك؛ قوله تعالى: ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته (الرعد 13)، قال الزجاج: جاء في التفسير أنه ملك يزجر السحاب، قال: وجائز أن يكون صوت الرعد تسبيحه لأن صوت الرعد من عظيم الأشياء.» وزعم ابن عباس: «الرعد ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الإِبل بحدائه»، وسُئل وهب بن منبه عن الرعد فقال: «الله أَعلم».
3 Hitti, Philip. History of the Arabs, (10th Edition, 1974), p. 12.
4 نوى اللفظات التي وردت في هذه الفقرة بين مزدوجين هي: «الضمير» ← ضم؛ «الحسب» ← حص؛ «النسب» ← نس؛ «الاخلاق» ← خل؛ «الفخامة» ← فخ؛ «الشرف» ← رف؛ «الكبرياء» ← كب؛ «قمح» ← قم؛ «سقى» ← سق؛ «فلح» ← فل؛ «حصد» ← صد؛ «درس» ← در؛ «خبز» ← بز.
تعليق الصورة: الكلام بالصور من Getty